سطر العالم الجليل «عبدالرحمن بن خلدون» في مقدمته الرائعة قواعد عظيمة في علم الاجتماع اعتبرها الغرب أساس علم الاجتماع، وقد ذكر في الفصل التاسع بأن «الأوطان التي تكثر فيها القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة» ثم علل السبب في ذلك وهو: «اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت، لأن كل عصبية تظن في نفسها منعة وقوة»، وضرب أمثلة بما وقع في افريقية والمغرب من عصبيات اوهنت دولهم على عكس ماكان في مصر والشام والأندلس من تجانس فبذلك كانت دولهم قوية وراسخة.
نعيش اليوم نقاشاً حامياً حول موضوع العصبية للوطن مقابل العصبيات للمبادئ المغايرة او لدول خارجية، وهو ما نطلق عليه مفهوم الولاء للوطن وأهميته، وبداية لا بد من الاعتراف بأنه لا يوجد إنسان ليس له ولاء او ولاءات متعددة لدينه ولوطنه ولقبيلته ولعائلته، وكل ولاء لا بد له من التزامات تجاه هذا الإنسان، ولكن المشكلة تكمن في تقديم الولاء الخارجي على الولاء الداخلي، وكذلك في كثرة القبائل والعصائب كما ذكر ابن خلدون، لاسيما اذا تضاربت الولاءات والعصبيات، ولاسيما اذا كان الولاء الخارجي يهدد الولاء الداخلي ويلغيه.
لقد كانت صدمة الشعب الكويتي بموقف أعضاء حزب الله الكويتي من مقتل عماد مغنية كبيرة، ذلك ان قضية الولاء للحزب والولاء للوطن قد دخلا في حالة صدام كبير ومروع، ولم يكن يتصور احد ان يحسم اعضاء الحزب النتيجة لصالح الحزب على حساب الوطن مع المجاهرة والتحدي والتهديد، فقد كانت ردة فعل الشعب كبيرة وعنيفة، لاسيما من نواب في المجلس يعتبرهم أعلى سلطة تمثل الشعب وتدافع عن حقوقه.
وفي الحقيقة ان حزب الله اللبناني قد ارتكب نفس الغلطة عندما قدم ولاءه الخارجي لدول لا تريد الخير للبنان على ولائه لبلده فقاد بلده إلى الشلل الكامل وتعطل انتخاب الرئيس، ولا شك ان هذا الحزب مهما تذرع بحجج من أجل تبرير موقفه الا انه قد فقد ثقة غالبية الشعب اللبناني وفقد رصيده الشعبي وبطولاته ضد الكيان الصهيوني.
بعض المتحذلقين حاول تصوير النقد لما حدث بأنه تأجيج لفتنة طائفية وضرب للوحدة الوطنية، والحقيقة ان احداً من الشعب الكويتي لم يوجه النقد للطائفة الشيعية في البلد التي يدين كثير من أبنائها بالولاء لوطنهم، والتي بادرت بنقد موقف حزب الله من «مغنية»، والشيء بالشيء يذكر عندما قامت فئة ضالة من أتباع القاعدة سابقاً ببعض العمليات الاجرامية في الكويت وتصدى لها الجميع واستنكر فعلها لأنه هدم لكيان المجتمع، ولم يقل احد بأن ذلك مقصود فيه اهل السنة او الإسلاميون بالطبع، فيجب علينا عدم المبالغة في ردات الفعل مع ترك القضاء يأخذ مجراه حتى لا يتحول الجلد المستمر للذات إلى نتيجة عكسية لكني اعتقد بأن ردة فعل المجتمع ضد تلك الحادثة كانت مفيدة في اعطاء دروس للجميع بأن في المجتمع خطوطاً حمراء لا يجوز تعديها، وأن الولاء الخارجي اذا تصادم مع الولاء للوطن فإن الشعب لا يمكن ان يغفره وحتى لا تضيع هيبة الدولة وتحكمنا العصبيات كما حكمت لبنان. إن تلك الحادثة اشبه بالمقاومة الطبيعية للجسم ضد الميكروبات والتي لولاها لفقد الإنسان حياته.
د. وائل الحساوي
[email protected]