عقد الوزير العربي المهم مؤتمرا صحافيا اعتقد الإعلاميون أنه سيخصص لمناقشة خطط وزارته للمقبل من الأيام. تهدج صوته وارتعشت يداه وقدم استقالته على الهواء مباشرة لأنه لم يكن يعرف أنه بتوقيعه على إحدى المعاملات ارتكب مخالفة. فهذه المعاملة سيستفيد منها أحد الذين يمتّون بصلة لأحد أعضاء اللجنة القانونية في الوزارة. أوقف الوزير المعاملة واعتذر للناس واعتزل العمل العام.
هكذا بدأ الحلم الذي غزاني ليلة أمس. تخيلّت نفسي أكبر في العمر بخمس سنوات، وأطل من شرفة واسعة على عالم عربي افتراضي. ممالك وإمارات دستورية وأحزاب مدنية لا مكان للأفكار الطائفية فيها ولا للأيديولوجيات السياسية الجامدة التي تأسرنا في مسائل الهوية والانتماء وتغلب العزلة الفكرية على القضايا المستقبلية الحقيقية. أحزاب متطورة ديناميكية علمية متحضرة تستلهم أفضل ما في تجارب الآخرين الناجحة وتسلمه لقيادات شابة تعرف العصر وتتعرف باستمرار على لغته.
رأيت المؤتمرات الحزبية على الهواء مباشرة وكيف تنتخب القيادات وفقا لبرامج وكيف تعزل وفقا لطريقتها في إدارة هذه البرامج. لا زعامات تاريخية هنا ولا رؤساء مدى الحياة ولا هتافات بالروح والدم، بل أسئلة عن قطاعات الصحة والتعليم والمواصلات والحقوق المدنية وغيرها. خرجت شابة جامعية تسأل رئيس الحزب عن عدم تنفيذ وعده باقرار مساواة أكبر في التوظيف بين الجنسين، وخرج آخر يسأل عن التفاوت في الخدمات الصحية بين مستشفى وآخر، وسأل كثيرون عن التأخر في تطوير المناهج التربوية واقرار موازنة تحديث مختلف الفصول الدراسية وتزويدها بالتكنولوجيا. انتقد كثيرون عدم إقدام قيادة الحزب على هذه الإصلاحات مع أنها تملك الغالبية البرلمانية التي أهلتها لرئاسة الحكومة... وصوتت الغالبية مع تغيير القيادة وبالتالي انتقال السلطة إلى وجوه جديدة.
رأيت جمهوريات ينتخب فيها الرئيس لفترة معينة لا تتجاوز السنوات الخمس تجدد بالانتخاب الحر ولمرة واحدة، ورأيت الرئيس يذهب من القصر إلى بيته ثم إلى وظيفة أخرى اعتقد أنها التدريس في الجامعة. قدم كشفا بحساباته قبل أن يقبل تسلم المنصب ثم قدم كشفا بما حققه للبلد بعدما غادر المنصب. هنا البطالة تراجعت بنسبة معينة والتضخم تدنّى وفرص العمل زادت. تحدث عن شبكة اتصالات حديثة متكاملة تأسست متمنيا من خلفه أن يكمل الإنجاز، وعن شق طرق وتطوير شبكات الكهرباء والماء، وعن مدن استثمارية أنجزت وأخرى قيد الإنجاز. عن اتفاقات طويلة المدى مع جامعات كامبردج وهارفرد وأوكسفورد وغيرها لربط المناهج العلمية وتأمين مسالك تدريب وتوظيف عالمية، وأذكر أنني رأيت في المنام الرئيس نفسه يزور بوسطن ويتصور مع أحد الأساتذة العرب الذي عينوه رئيسا لإحدى أكبر الجامعات هناك وكيف ألقى كلمة مقتضبة في الاحتفال الصغير عبر فيها عن فخر بلده بما حصل ليرد عليه المسؤولون الأميركيون بأنهم هم الفخورون بقبول الأستاذ لهذا المنصب.
ولفتني هذا الحراك الاجتماعي الشبابي المختلف، ففي المنام رأيت ثقافة قانونية واجتماعية تعطى للطلبة في الصفوف الابتدائية كما يعطى الحليب للأطفال. يقول ابن السابعة ردا على سؤال المعلمة عن ظواهر التخلف: عدم وضع الحزام في السيارة. كسر إشارة السير. عدم فسح الطريق لكبار السن أو ذوي الاحتياجات الخاصة. رمي القاذورات في الشارع. الإساءة إلى الممتلكات العامة... ورأيت شبانا يعتبرون حماية المجتمع المدني والحريات والديموقراطية أمرا آليا وطبيعيا لذلك ينفرون من أي كلام فيه تمييز أو عنصرية أو نزعات طائفية ومذهبية وقبلية أو قمع أو تكميم للأفواه ويعزلون قائليه بل يذهبون أبعد من ذلك في اتجاه وضع قوانين وتشريعات لتجريم نشر هذه الأفكار لأنها تقسيمية خلافية من جهة ولأنها معيقة لتقدم قطارات التنمية من جهة أخرى.
رأيت مشاكل إنسانية وطبيعية. كوارث وحوادث. إخفاقات وتراجعات... لكن ذلك كله كان يزيد الدولة والمجتمع تماسكا ويحفز الناس على العطاء أكثر والتصرف بتحضر أعلى، وكانت التجربة زادا لهم للتعلم والتجاوز.
ما لم أره نهائيا كان منظر الأجهزة الأمنية وزوار الفجر وقوات ملثمة وسافرة تقتحم وتسحل وتقتل. لم أر مخربين ومندسين ولا ميليشيات وكتائب تابعة للنظام لأن الناس هم النظام ولأن السلطة تخضع حكما للتداول السلمي ولأن قوانين المحاسبة تطول الكبير قبل الصغير.
استفقت من الحلم وأنا أقول «خير اللهم اجعله خير» وأدرت التلفاز على نشرات الأخبار بيد كما أفعل كل صباح فيما اليد الأخرى تتجول بين المواقع الإلكترونية، واكتشفت أن ما اعتقدته «حلم أبريل» لم يكن حلما وأن واقعنا العربي «وردي ومشرق وجميل ومثالي» وأفضل بكثير مما رأيت... فقط كسر خاطري الوزير الذي استقال في بداية الحلم.
اختلط عليّ الأمر... حلم أبريل أم كذبة أبريل؟ سأعيد قراءة ما حلمت لأعرف الإجابة.
جاسم بودي