دراسة / شغلت حيّزاً من الحوار في الآونة الأخيرة لعدم معرفة البعض بأحكامها وضوابطها

«المباهلة»... الدعاء أن تحلّ لعنة الله على الكاذب من طرفيها في قضايا الشرع والعقيدة وليس في الأمور الدنيوية

تصغير
تكبير
| كتب عبدالله متولي |

قفز في الآونة الاخيرة الى سطح الاحداث مصطلح «المباهلة»... والتي وردت في معرض خلاف سياسي بين الوزير روضان الروضان والنائب مسلم البراك، حدث على اثره ان دعا الاول الثاني للمباهلة...

ونحن هنا لسنا في معرض الحديث عن هذا الخلاف واسبابه وتداعياته... انما نحن معنيون بما احدثته هذه الدعوة من تبعات بالنسبة للعامة تتلخص في ان معظمهم لايعرف ما هي المباهلة، في مسألة شرعية لكنها غير مطروحة في حياة المسلمين...

اذ انها ليست من مكونات العبادة او العقيدة.

انما هي امر عارض قد يتم اللجوء اليه في حالات معينة ونادرة، ومن هنا فان مصطلح «المباهلة» قد لايكون على علم بتفاصيله الا اهل الاختصاص والعلم الشرعي.

فما المباهلة، ومتى يلجأ اليها الانسان وماضوابطها وشروطها، وهل يستطيع كل انسان ان يلجأ اليها ام انها تختص بنفر معين من الناس؟

هذه الاسئلة سنحاول الاجابة عنها من خلال هذا البحث الذي اعده الدكتور ابراهيم بن صالح الحميضي المحاضر في كلية الشريعة واصول الدين بالقصيم.

والذي تكلم فيه عن المباهلة في القرآن واسباب نزول الآيات الخاصة بها، ومباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران، وهل المباهلة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده، ام لامته من بعده ثم بيان القضايا التي تجوز فيها «المباهلة» وهل تجوز في امور الدنيا ام لا...

وقبل الدخول في التفاصيل يجب ان نشير الى ما اجمع عليه العلماء من ان مباهلة اهل الباطل امر مشروع غير انه لايصار اليه الا مع الجزم بصحة ما عليه المباهل وصدقه فيه، وترتب مصلحة شرعية على المباهلة كإقامة الحجة وليس لامر من امور الدنيا.

كما اجمع العلماء على انه نظراً لخطورة الدعوة الى المباهلة او قبول الدعوة اليها فالأولى عدم التوسع في هذا الباب والاحتراز مما قد يترتب على المباهلة من مفاسد كتعلق العوام بأحد المتباهلين او اظهار باطل لم يكن ليظهر لولاها، او اصابة المباهل الصادق بالرياء او غير ذلك من المفاسد.

واما حكم المباهلة فهي لاتجوز الا في امر مهم شرعاً وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه الا بالمباهلة.



احتوى القرآن الكريم على أفضل الأساليب، وأحكم المناهج، وأقوى الحجج في الجدال مع المخالفين من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وغيرهم.

ومن المناهج التي سلكها القرآن الكريم في معاملة المخالفين المبطلين المباهلة؛ فقد أمر الله - تعالى - بها نبيه صلى الله عليه وسلم - حينما جادله نصارى نجران في أمر عيسى - عليه السلام - فلم يقبلوا الحق الذي جاء به من عند الله - تعالى - وأصروا على باطلهم وضلالهم.

ونظرا لكثرة الخلاف في هذا العصر وقلة العلم أسيء استخدام هذا المنهج، فأخذ بعض الناس يدعو الى المباهلة من غير معرفة لضوابطها وفقه لأحكامها.

ولذلك نتطرق الى هذا الموضوع من خلال ما انزل الله - تعالى - فيه من آيات في سورة آل عمران، وما ذكره أهل العلم من المفسرين وغيرهم حول هذه الآيات.



تعريف المباهلة

قال ابن منظور: «البهل: اللعن، وبهله الله بهلا أي: لعنه، وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا، والمباهلة: الملاعنة، يقال: باهلت فلانا: أي لاعنته».

وقال الراغب الأصفهاني: «والبهل والابتهال في الدعاء الاسترسال فيه، والتضرع؛ نحو قوله - عز وجل -: {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} (آل عمران: 61)، ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل ان الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن».

والخلاصة: ان معنى المباهلة في اللغة: الدعاء باللعنة بتضرع واجتهاد.

وبعد التأمل في الآية الكريمة: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} (آل عمران: 61).

وما ورد في تفسيرها من الأحاديث والآثار، ومن خلال ما سبق من كلام أهل اللغة يتبين ان المراد بالمباهلة الشرعية: هي ان يجتمع القوم اذا اختلفوا في شيء مصطحبين أبناءهم ونساءهم فيدعون الله - تعالى - ان يحل لعنته وعقوبته بالكاذب من الفريقين.

* المباهلة في القرآن الكريم:

سلك القرآن الكريم هذا الأسلوب - المباهلة - في مجادلة المشركين المبطلين الذين يتكبرون عن قبول الحق، ويصرون على باطلهم وضلالهم مع قيام الحجة عليهم، وظهور الحق لهم؛ حيث أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ان يباهل نصارى نجران حينما جادلوه في أمر عيسى - عليه السلام - فلم يقبلوا الحق الذي جاء به من عند الله - تعالى - بل أصروا على عقيدتهم الفاسدة، ومقولتهم الباطلة في عيسى عليه السلام.

قال - تعالى -: {ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين (61) ان هذا لهو القصص الحق وما من اله الا الله وان الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين} (آل عمران: 59 - 63).

* سبب نزول الآيات:

قال الواحدي: «قال المفسرون: قدم وفد نجران، وكانوا ستين راكبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر اليهم يؤول أمرهم؛ فالعاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون الا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد امامهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وامامهم وصاحب مدارسهم، وكان شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.

فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات وهي ثياب يمنية عبارة عن، جباب وأردية في جمال رجال الحارث بن كعب، يقول من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا الى المشرق.

فكلم السيد والعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما، فقالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، منعكما من الاسلام دعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: ان لم يكن عيسى ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيســى، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ألسـتم تعلمــون انـه لا يكون ولد الا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون ان عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى! قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا، فانزل الله - عز وجل - فيهم صدر سورة آل عمران الى بضعة وثمانين آية منها».

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى -: {ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59)، وذلك ان رهطا من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى؛ تزعم انه عبد الله، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: أجل! انه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو انبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربنا السميع العليم، فقال: قل لهم اذا أتوك: {ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (آل عمران: 59) الى آخر الآية.

وكان وفودهم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة، كما ذكر ابن كثير.

* عرض اجمالي للآيات

في هذه الآيات الكريمة يقول الله - تعالى - منكرا على النصارى الذين يزعمون ان عيسى - عليه السلام - اله أو ابن اله: {ان مثل عيسى عنـــــد الله} (آل عمــــــــــــران: 59)، في قــدرتـه - سبحانه - على خلقه من غير أب {كمثل آدم}؛ حيث خلقه - جل وعلا - من غير أب ولا أم، بل {خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}؛ فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم قادر على ان يخلق عيسى - عليه السلام - من غير أب بطريق الأولى والأحرى.

قال الألوسي: «والمثل هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه، بل بمعنى الحال والصفة العجيبة، اي صفة عيسى كصفة آدم وحاله العجيبة» (تفسير الألوسي 3/ 186).

فإن كانت شبهتكم في ادعائكم بنوة عيسى - عليه السلام - انه خلق من غير أب فان آدم أحق بذلك منه وأولى؛ لانه خلق من غير أم ولا أب، ومع ذلك فقد اتفق الناس كلهم على انه عبد من عباد الله، وان دعوى بنوته باطلة؛ فدعوى ذلك في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا.

«وهذا من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته اذا نظر في ما هو أغرب مما استغربه».

وهذا الأسلوب من الأقيسة الاضمارية التي استخدمها القرآن الكريم في مجادلة الخصم، «وهي التي تحذف فيها احدى المقدمات مع وجود ما ينبئ عن المحذوف».

ثم بين - سبحانه وتعالى - ان ما ذكره في شأن عيسى - عليه السلام - وانه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه هو القول الحق الذي لا ريب فيه، لا كما يزعم النصارى من انه اله أو ابن اله؛ كما نهى - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم ان يشك في أمر عيسى - عليه السلام - بعدما جاءه البلاغ المبين من ربه عز وجل.

وتوجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مع استحالة وقوع الشك منه له فائدتان:

احداهما: انه صلى الله عليه وسلم اذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية (اي الارتياح للشيء ومحبته والفرح به والنشاط الى المعروف) فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور.

والثانية: ان السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم، فينزع وينزجر عما يورث الامتراء؛ لانه صلى الله عليه وسلم مع جلالته وعلو قدره خوطب بمثل هذا فكيف بغيره؟».

وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته.

ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم ان يباهل من جادله في شأن عيسى - عليه السلام - بعد قيام الحجة عليه، وظهور الحق له بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة؛ «وذلك بان يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهــم وأبنائهــم ثم يدعــون الله - تعالى - ان ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين».

«وانما ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم الى النفس الأبناء والنساء مع ان القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو مختص به وبمن يباهله؛ لان ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو، وأوفر اضرارا به لو تمت المباهلة».

ثم أكد - سبحانه وتعالى - صدق ما قصه وأخبر به من أمر عيسى - عليه السلام - وانه هو الحق الذي لا جدال فيه، لا ما يدعيه النصارى وغيرهم، مبينا - سبحانه - انه هو المتفرد بالربوبية المستحق للألوهية، وانه هو العزيز في ملكه، الحكيم في تدبيره.

وفي ختام الآيات هدد الله - تعالى - نصارى نجران الضالين ان هم أعرضوا عن الحق بعدما تبين لهم في هذه الآيات البينات التي سمعوها فلم يرجعوا عن دينهم الباطل وقولهم الفاسد، مبينا انه عليم بهم، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، بل يحصيها عليهم ثم يجازيهم بها.

وقد أخـرج البخاري في صحيحه عن حذيفة - رضي الله عنه - انه قال: «جاء العاقب والسيد صاحبا نجران الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان ان يلاعناه، قال: فقال أحدهما: لا تفعل؛ فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: انا نعطيك ما سألتنا وأبعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا الا أمينا، فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح! فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أمين هذه الأمة».

وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير: «ان النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بملاعنتهم دعاهم الى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد ان تفعل فيما دعوتنا اليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم ان محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم انه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وانه للاستئصال منكم ان فعلتم؛ فان كنتم أبيتم الا الف دينكم والاقامة على ما انتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا الى بلادكم.

فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فانكم عندنا رضى».

وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله - تعالى -: «فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم» (آل عمران: 61): «فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا، فخرج معهم، فلم يخرج يومئذ النصارى، وقالوا: انا نخاف ان يكون هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وليس دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كغيرها، فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو خرجوا لاحترقوا، فصالحوه على صلح: على ان له عليهم ثمانين ألفا، فما عجزت الدراهم ففي العروض: الحلة بأربعين، وعلى انه له عليهم ثلاثا وثلاثين درعا، وثلاثا وثلاثين بعيرا، وأربعة وثلاثين فرسا غازية كل سنة، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضامن لها حتى نؤديها اليهم».

وأخرج مسلم في صحيحه مـن حـديث سـعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «ولما نزلت هذه الآية: «فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم» دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي».

* هل المباهلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟

المباهلة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لجميع الأمة الى قيام الساعة، كما انها ليست خاصة مع النصارى، بل هي عامة مع كل مخالف، اذا قامت عليه الحجة وظهر له الحق، فلم يرجع عن قوله، بل أصر على ضلاله وعناده.

قال ابن القيم رحمه الله في فوائد قصة نصارى نجران: «ومنها ان السنة في مجادلة أهل الباطل اذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا بل أصروا على العناد ان يدعوهم الى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله، ولم يقل: ان ذلك ليس لأمتك من بعدك، ودعا اليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن انكر عليه بعض مسائل الفروع، ولم ينكر عليه الصحابة، ودعا اليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر ذلك عليه، وهذا من تمام الحجة».

قلت: وقد دعا اليها أيضا ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرج النسائي عنه انه قال: «من شاء لأعنته ما انزلت: «وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن» (الطلاق: 4)، الا بعد آية المتوفى عنها زوجهــا، اذا وضعـت المتوفـى عنها زوجهـا فقـد حلت».

كما دعا اليها ابن القيم بعض من خالفه في مسائل صفات الله تعالى فلم يجبه الى ذلك، وخاف سوء العاقبة.

وممن دعا اليها أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ حيث قال رحمه الله في احدى رسائله: «وانا أدعو من خالفني الى أحد أربع: اما الى كتاب الله، واما الى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واما الى اجماع أهل العلم، فان عاند دعوته الى المباهلة».

وقال الحافظ ابن حجر في فوائد قصة أهل نجران: «وفيها مشروعية مباهلة المخالف اذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس الى ذلك، ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء».

وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في المملكة العربية السعودية: هل المباهلة خاصة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والنصارى؟

فأجابت بانها ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم مع النصارى، بل حكمها عام له وأمته مع النصارى وغيرهم.

* شروط المباهلة:

يشترط للمباهلة شروط خمسة لا بد من توافرها قبل ان يقدم الانسان عليها، وهذه الشروط مستنبطة من القرآن الكريم، والأحاديث، والآثار الواردة في قصة نصارى نجران، وكلام بعض العلماء على هذه الواقعة، وهي كما يلي:

1 - اخلاص النية لله تعالى فان المباهلة دعاء وتضرع الى الله تعالى كما تقدم، ولا بد لقبول الدعاء من اخلاص النية فيه لله تعالــى كما هــو الشان في جميــع العبادات، فلا يجوز ان يكون الغرض منها الرغبة في الغلبة، والانتصار للهوى، أو حب الظهور وانتشار الصيت، بل تكون للدفاع عن الحق وأهله، واظهار الحق، والدعوة الى الله تعالى والذب عن دينه.

2 - العلم؛ فان المباهــلة لا بد ان يسبقها حــوار وجــدال، ولا جدال بلا علم، والمجادل الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد ذم الله تعالى المجادل بغير علم فقال: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (الحج: 8).

كما ذم الله أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم فقال تعالى: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما انزلت التوراة والانجيل الا من بعده أفلا تعقلون ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمون}

(آل عمران: 65 - 66).

قال القرطبي: «في الآية دليل على المنع عن الجدال لمن لا علم له ولا تحقيق عنده».

3 - ان يكون طالب المباهلة من أهل الصلاح والتقى؛ اذ انها دعاء، ومن أعظم أسباب قبول الدعاء الاستجابة لله تعالى بفعل الطاعات واجتناب المحرمات كما قال تعالى: {واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة: 186).

4 - ان تكون بعد اقامة الحجة على المخالف، واظهار الحق له بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة؛ فاذا أصر على رأيه وبقي على ضلاله وعناده، ولم يقبل الحق، ولم تجد معه المحاورة والمناقشة؛ فعند ذلك يأتي دور المباهلة، وتقدم قول ابن القيم رحمه الله: «ان السنة في مجادلة أهل الباطل اذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا بل أصروا على العناد ان يدعوهم الى المباهلة».

وبهذا يتبين خطأ من يلجأ الى المباهلة بسبب ضعف أدلته وانقطاع حجته، وعدم قدرته على اقناع خصمه وتفنيد أدلته والرد على شبهته، وان هذا المنهج خلاف ما جاء في الكتاب والسنة.

5 - ان تكون المباهلة في أمر مهم من أمور الدين، ويرجى في اقامتها حصول مصلحة للاسلام والمسلمين، أو دفع مفسدة كذلك.

قال الدواني: «انها (أي المباهلة) لا تجوز الا في أمر مهم شرعا وقع فيه اشتباه وعناد لا يفسر دفعه الا بالمباهلة، فيشترط كونها بعد اقامة الحجة، والسعي في ازالة الشبهة وتقديم النصح والانذار، وعدم نفع ذلك، ومساس الضرورة اليها»، فلا ينبغي ان يدعو الانسان اليها في كل مسألة يقع فيها الخلاف، ويسوغ فيها الاجتهاد كما يفعل بعض الجهال، وتأمل قول الله تعالى: {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} (آل عمران: 61)؛ أفرأيت من ذهب الى رأي ظهرت له قوته، وبانت له رجاحته معتمدا على أدلة ثبتت عنده صحتها، وبدت له صراحتها، هل يعد كاذبا مبطلا ظالما تجب مباهلته والقضاء عليه وملاعنته؟!



عاقبة المباهلة

قال ابن حجر: «ومما عرف بالتجربة ان من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، وقد وقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين».

وقد دلت السنة على ذلك؛ فقد أخرج الامام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا».

وقال صديق حسن خان القنوجي: «أردت المباهلة في ذلك الباب - يعني باب صفات الله تعالى - مع بعضهم فلم يقم المخالف غير شهرين حتى مات».

ومما وقع أيضا في هذا العصر: ان المتنبئ غلام أحمد القادياني الذي ظهر في شبه القارة الهندية في القرن المنصرم باهل أحد العلماء الذين ناقشوه وناظروه وأظهروا كذبه وبطلان دعــوتـه، وهــو الشيخ الجليل ثناء الله الأمرتسـري، فأهلك الله - عز وجل - المتنبئ الكذاب بعد سنة من مباهلته، وبقي الشيخ ثناء الله بعده قريبا من أربعين سنة، يهدم بنيان القاديانية ويجتث جذورها».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي