كان يصف لصاحبه بالتفصيل جميع ما يراه من النافذة عصر كل يوم، حيث تطل نافذته على منظر بحيرة جميلة، يأتيها الناس من كل مكان ليقضوا فيها وقتاً ممتعاً، حيث يلعب الأطفال، ويلاحقون الفراشات بضحكات مجلجلة، بينما يستغرق آباؤهم في إطعام البط والبجع الذي يسبح في تلك البحيرة.
هكذا كان صاحبنا وفياً لجاره الذي يرقد بجانبه في المستشفى، حيث كان مصاباً بكسر أجبره على الاستلقاء على ظهره، وهو بهذا الفعل يشاركه المتعة والفرح، وهكذا هو الإنسان يستمتع بالسعادة عندما ينشرها، لأنه وبحسب قوانين الطبيعة، فإن نشر الخير يعود على صاحبه أضعافاً مضاعفة.
استمر المريض الذي بجانب النافذة على عادته اليومية تلك، وكأنه يقوم بدور المصور والمخرج لبرنامج تلفزيوني يومي للمستلقي على ظهره بجانبه، حتى جاء ذلك اليوم الذي دخلت فيه الممرضة، لترفع سماعة الهاتف وتطلب من طبيب الجناح الحضور فورا، لأن المريض الذي بجانب النافذة قد توقف نبض قلبه وهو نائم!
ماذا مات متى كيف؟! هكذا صعق صاحبنا وبات يردد تلك الكلمات على مسامع الممرضة والدكتور الذي أتى من فوره، وأمر مباشرة بإخراج الجثة، لأن صاحبها قد فارق الحياة إنا لله وإنا إليه راجعون. رددها المريض المفجوع بموت صاحبه الذي كان يؤنسه في مرضه.
وبينما هو على هذه الحال جاءت الممرضة لترتب السرير لاستقبال نزيل جديد، وإذا بصاحبنا (المريض المستلقي على ظهره) يطلب منها أن ينتقل بسريره فيكون بجانب النافذة، ليستمتع على الأقل بتلك المناظر التي تطل عليه.
استغربت الممرضة طلبه قائلة: ولِمَ تريد أن تكون بجانب النافذة ؟ فقال لها ما كان يقوم به صاحبه تجاهه كل يوم. فقاطعته الممرضة قائلة ان صاحبك المتوفى كان كفيفاً! ثم إن هذه النافذة لا تطل إلا على حوش داخلي في المستشفى!
تركته الممرضة وكله دهشة مما سمع، وأخذ ينظر من النافذة، حيث الحوش الصغير الموحش، وذهبت ذاكرته بعيدا مستحضرة كل ما وصفه جاره الكفيف، وكيف استطاع أن يعيش بالأمل في أجواء موحشة، تلفها الظلمة من كل اتجاه، ولكنه لم يستسلم لها، ونزلت دموعه حزنا على ذلك الصديق الكفيف الذي استطاع أن يزرع في قلبه الأمل والتفاؤل، ويرسم في شعوره كل معاني السعادة والفرح والمتعة، ورفع كفيه يدعو له، ثم استلقى على سريره مردداً بينه وبين نفسه:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
د.عبداللطيف الصريخ
كاتب كويتي
Twitter : @Dralsuraikh