أكد أن الثورات «ستساهم في تجاوز التصحر السياسي لمصلحة دولة القانون»

حتي لـ «الراي»: دخلنا مرحلة النهضة العربية الثانية والغلبة للخيار الديموقراطي

تصغير
تكبير
| بيروت ـ من ريتا فرج |

«نعيش اليوم أجمل لحظات التغيير المليئة بتحديات حاملة لتحولات مفصلية»، بهذه الكلمات أوجز سفير جامعة الدول العربية في باريس ومندوبها الدائم لدى اليونيسكو الدكتور ناصيف** حتي الحِراك الاحتجاجي الثوري. حتي الذي وصف البانوراما العربية المباغتة بأنها «ديموقراطية الانتفاضات العربية»، رأى أن العرب اليوم دخلوا في عصر جديد للنهضة بعد إدراكهم عقم الايديولوجيات من جهة، ودخولهم في الثقافة الكونية القائمة على التعددية السياسية وحقوق الانسان عبر شبكات التواصل الالكتروني من جهة أخرى.

وأكد وجود عناصر ظرفية وأخرى هيكلية أنتجت هذه التحولات النوعية بدءاً بـ «ثورة الياسمين»، معتبراً أن العالم العربي سيتخطى أزمة التصحر السياسي لمصلحة دولة القانون والمساءلة، ما يعني تدرجه نحو «الدمقرطة». ومع تأكيده أهمية حقبة ما بعد الايديولوجيات العربية التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي الداعم الأكبر للأنظمة الاستبدادية، لفت إلى ضرورة تطبيق الدول العربية للإصلاحات، مشيراً إلى أن المتغيرات الراهنة ستصب لمصلحة الخيار الديموقراطي. عبر الهاتف تحدثت «الراي» إلى حتي من مكتبه في باريس وأجرت معه الحوار الآتي:



• ما تفسيرك لما يجري اليوم في العالم العربي من ثورات متنقلة لم يشهدها في تاريخه الحديث؟

ما حدث في تونس ومصر وليبيا رغم الخصوصيات التي تتمتع بها كل دولة عربية يرتبط في جزء أساسي منه بعناصر ظرفية يمكن تقسيمها عنوانين: الأول، الأزمة الاقتصادية المالية العالمية التي أثرت في شكل كبير في صادرات بعض الدول النامية إلى الدول المتقدمة، ويبرز المثال التونسي في هذا الشأن، والثاني الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأولية خصوصاً السلع الغذائية وبالتالي في ضرب القدرة الشرائية عند العائلة في الدول العربية. لكن هناك عناصر هيكلية وراء تفجر هذه الثورات، أولها الديموغرافية الضاغطة، وهذا العنصر مشترك بين كل الدول العربية، ففي الأعوام الأخيرة لم تستطع هذه الدول احتواء هذا التحدي الكبير، باعتبار أن غالبية الفئة الديموغرافية هي من الشباب الساعين للانخراط في سوق العمل، وهذا التحدي أشار إليه التقرير السنوي للتنمية في العالم العربي الصادر عن الأمم المتحدة العام 2009 إذ خلص إلى أن نحو 50 في المئة من السكان هم دون 24 عاماً، ما يعني ضرورة الاستعداد لاستيعاب الشباب عبر توفير فرص العمل لهم. هناك أيضاً تراجع دور الدولة العربية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وتحديداً دور الدولة الوازنة والضامنة والناظمة لدعم قطاعات اقتصادية في حالات معينة والحفاظ على التوازن المطلوب بين مختلف هذه القطاعات لما من انعدام التوازن من نتائج اجتماعية. ثالثاً، تشكل الوعي عند الشعوب العربية التي نجدها اليوم تراقب وتسمع وتشارك وتدرك ما يجري في الفضاء العالمي من عناوين الكرامة وحق المشاركة في السلطة والحصول على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما أدى إلى هذه الثورات التي اسميها ديموقراطية الانتفاضات العربية، فهي لا تعكس شعارات ايديولوجية أو حزبية أو سياسية أو اقتصادية أو قطاعية أو مناطقية معينة بل تعبر عن كل تضاريس المجتمعات التي انطلقت منها. رابعاً، توسع شبكات التواصل الاجتماعي التي أدت دوراً أساسياً في عمليات التعبئة خصوصاً لدى الفئات الشابة. إلى جانب ذلك، كانت هناك فرصة أساسية تمرس العرب دائما في إضاعتها هي عدم الاهتمام بتعزيز الاندماج الاقتصادي العربي ـ العربي رغم أنه حاجة وطنية لكل بلد، وكان التعامل الرسمي معه دائماً كشعار سياسي أو ايديولوجي، وما طبق في الماضي جزء صغير من حجم التعاون الممكن. الكل يعلم أهمية الآمال التي علقت على القمة الاقتصادية العربية التي عقدت في الكويت، ثم القمة الاقتصادية الثانية في شرم الشيخ، ولكن جئنا متأخرين كثيراً وحاملين للقليل أيضاً، فالوضع العربي وتحديداً العمل العربي المشترك على مستوى القرار الجماعي في مكان والتنفيذ في مكان آخر سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو التنموي في شكل عام. مسألة التعاون الأفقي في الدول النامية أساسية وتحديداً في العالم العربي، فكل ما تم اتخاذه من قرارات للتعاون على مستوى الجامعة العربية بقي شعارات. التعاون الاقتصادي المغاربي على سبيل المثال، رغم ما يحمله من قدرات كبيرة في حال انطلق لمصلحة كل الدول المغاربية كان معطلاً دائماً بسبب مشكلة الصحراء بين الجزائر والمغرب، فالتسييس الكبير للاقتصاد أدى إلى شل التعاون الاقتصادي العربي التدرجي، لذا من المهم تخطي هذه العقبة مستقبلاً وولوج باب التعاون العربي العربي. هذا ربما من أهم دروس الثورات الحاصلة. شعوبنا ليست غبية ولم يكن من الممكن تغييبها، انها في عصر معولم، والجميع في اتصال مباشر مع العالم الخارجي، وتحديداً الفئات الشبابية الواعية والمدركة حتى في طبقاتها الدنيا. والأهم أن على الدولة العربية التطلع إلى تجديد العقد الاجتماعي بينها وبين مجتمعها ما يتيح إعادة انتاج السلطة في طريقة أكثر تمثيلاً وتعبيراً وتفاعلاً مع مجتمعها في المستقبل.

• هل الأنظمة الناشئة من الثورات ستأخذ في الاعتبار مطلب الديموقراطية، وكيف ستكون ماهية الأنظمة الجديدة؟

دخلنا مرحلة انتقالية فيها كثير من المطبات والتحديات وهذا شيء طبيعي في مراحل التغيير الناتجة من الثورات. رغم أن لكل دولة خصوصيتها على مستوى بيئتها المجتمعية ومحيطها الخارجي المباشر، لا شك في أن هذا التحول سيصب في نهاية الأمر لمصلحة فتح فضاء سياسي ناشط، دينامي في اتجاه توفير دولة القانون والمؤسسات القوية ودولة المساءلة، فالمجتمع الناشط ضروري لبناء دولة فاعلة وقادرة على المستوى الدولي. وهنا أريد التأكيد أن العالم العربي في مرحلة «الدمقرطة»، وهو سيتجاوز التصحر السياسي الذي أوجدته الأنظمة السابقة. والسؤال الذي سيكون مطروحاً بعد فترة انتقالية أولى تؤدي الى تغيير السلطة القائمة يتعلق بإيجاد هيئة تأسيسية وطنية لتبلور دستوراً جديداً يعكس الخيار الشعبي العام حول أي نظام جمهوري يريده أبناء هذا البلد أو ذاك الذي حدثت فيه الثورة، فهل سيكون نظاماً رئاسياً أو شبه رئاسي أو برلمانياً أو مركباً.

• كيف تفسر التعاقب الزمني القصير للثورات الجارية في أكثر من بلد عربي؟

هذا التعاقب للثورات شهدناه في اوروبا الشرقية، فبعد سقوط العناصر الخارجية الضاغطة التي تمثلت في انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، توجهت المجتمعات الاوروبية الشرقية نحو الديموقراطية. وما يجري في العالم العربي هو بمثابة الموجة الرابعة لـ «الدمقرطة» في العالم. ولابد من الاشارة الى أن أوروبا لا يرتبط بعضها مع بعض إلاّ على قاعدة المصالح، في حين أن العالم العربي لديه هوية قومية مشتركة تساهم في تعزيز عملية التأثر المتبادل والتعاطف القوي بين مجتمع عربي وآخر. شعرت بلحظة اعتزاز كبيرة كمواطن عربي يعيش في باريس، عندما شاهدت تظاهرات عربية تضم مواطنين من مختلف الجنسيات العربية ومن أجيال مختلفة، بعضهم من الجيلين الثاني والثالث ممن لا يجيدون العربية، كانوا يهتفون لتونس ولمصر وللكرامة العربية. أعتقد أننا دخلنا مرحلة النهضة العربية الثانية بعد المرحلة الأولى التي انطلقت في نهاية القرن التاسع عشر، والتي ستؤدي في المستقبل إلى حال من التضامن الفاعل والتعاون والتكامل التدريجيين بين كل أرجاء العالم العربي. وما أشير إليه ليس كلاماً عاطفياً أو تمنيات، فالتواصل العربي المعزز والتكامل العربي على قاعدة المصالح المشتركة اكثر من ضروري لخدمة مصالحنا الوطنية ومصلحتنا العربية المشتركة التي تشكل صمام أمان وحامياً لمصالحنا الوطنية.

• هل هي بداية انهيار الأنظمة السلطوية؟

الثورات التي وقعت أكدت نهاية منطق التوريث السياسي، فالدولة العربية ليست عزبة أو شركة يملكها زعيم والتغيير الديموقراطي وتداول السلطة ضمن مؤسسات قوية ممثلة للمجتمع شأن طبيعي عبر عملية التداول السلمي للسلطة، وكل دولة تختار عبر هذه العملية الدستور الذي يتواءم وبيئتها المجتمعية ومصالحها والذي يؤمن أفضل وسيلة للتنمية الإنسانية الشاملة لديها.

• الحركات الاحتجاجية في العالم العربي لم ترفع الشعارات الحزبية أو الايديولوجية. هل يمكن القول إننا في مرحلة سقوط الايديولوجية بعدما أدركت الفئات الشبابية عدم جدواها؟

المرحلة يمكن أن نسميها بالفعل مرحلة ما بعد الايديولوجيات، وهذا لا يعني عدم وجود قوى أيديولوجية لكنه يعني أن حركة التغيير بطبيعتها وآفاقها غير مرتبطة أو غير اسيرة لمشروع أيديولوجي معين، ويقيني أن التحولات المرتقبة ستشمل الجميع ومن بينها الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية التي ستضطر إلى القيام بمراجعات شاملة ما يجعل خطابها أقرب إلى الواقع وليس إلى الشعارات والتنازع حول المشروعيات العربية العربية.

• أي عالم عربي سينهض من رحم الثورات العربية؟

نحن في مرحلة تحول أساسي في العالم العربي سيكون لمصلحة الخيار الديموقراطي مع التذكير بأنه ليس ثمة نموذج ديموقراطي معلب يجري اسقاطه عبر الزمان والمكان. أتمنى على الدول العربية التي لم تجر اصلاحات سياسية شاملة اجراء عملية مراجعة نقدية كبيرة، وأن تذهب إلى بناء عقد اجتماعي جديد مع مجتمعها، بما يتيح إعادة هيكلة كل مؤسساتها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية. فالإصلاح عملية شاملة تتطلب خطوات نوعية جريئة وفي مقدمها الاقرار بحقوق الانسان والتعددية السياسية والمساءلة.

• ما السيناريو المرتقب أمام النظام الليبي؟

العالم العربي يشبه الطائرة المحاصرة بالجيوب الهوائية وكل طيار سيواجه هذه الجيوب. أريد تأكيد تغيير أساسي مهم في إطار العمل العربي المشترك يعطيه الصدقية التي يحتاج إليها اكثر من أي وقت ويتمثل في البيان الصادر عن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية أخيراً بشأن الأوضاع في ليبيا. فاللغة التي تبناها البيان جديدة، وهذا الأمر ظهر في شكل واضح في البندين الخامس والثامن. البند الخامس أكد أن «تحقيق تطلعات الشعوب العربية ومطالبها وآمالها في الحرية والإصلاح والتطوير والتغيير الديموقراطي والعدالة الاجتماعية هو أمر مشروع، وحق يجب احترامه وكفالة ممارسته بالأسلوب السلمي، وبما يحفظ الحريات الأساسية للمواطنين ووحدة الأوطان وسيادتها والسلم الأهلي والوفاق الوطني في الدول العربية». أما البند الثامن وهو الأهم فأوقف «مشاركة وفود حكومة الجماهيرية العربية الليبية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة، إلى حين إقدام السلطات الليبية على الاستجابة للمطالبات المذكورة أعلاه، وبما يضمن تحقيق أمن الشعب الليبي واستقراره». هذه اللغة جديدة وهي تندرج في التغيرات الحاصلة وتتجاوب معها كلياً. في السابق كان يُنظر الى أي حدث من هذا النوع باعتباره شأناً داخلياً، أما اليوم فقد اتخذ حيزاً وطنياً على مستوى العالم العربي، وهو مؤشر دال على تحولات مهمة جداً لجهة إعادة تبلور التضامن العربي وإرسائه على قواعد صلبة لأنها تعبر عن تطلعات المجتمعات العربية.

• هل النظام السوري مهدد أيضاً بثورة شعبية إذا لم يلجأ الى الاصلاحات الجذرية؟

لست في موقع يقدم دروساً أو اقتراحات خاصة بهذا البلد العربي أو ذاك، وأياً كانت الخصوصيات المتعلقة بكل بلد عربي فالمشترك هو أن العالم العربي في كل دوله أمام تحد قوامه ضرورة إجراء عمليات إصلاحية شاملة تخدم مستقبل مجتمعه وتحصن هذا المجتمع وتعزز امكاناته ومكانته في العالم، والإصلاحات المطلوبة والتي قد تختلف درجتها بين دولة وأخرى تتعلق بكل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية نظراً إلى الترابط الوثيق بين هذه المستويات والأبعاد. وأبناء كل بلد عربي عزيزهم أدرى بمشاكل بلدهم ومعوقات التنمية أمامه وكيفية إجراء الاصلاحات الممكنة.

• إذا أردت أن توجز المشهد الثوري الذي يمر به العالم العربي ماذا تقول؟

نعيش اليوم أجمل لحظات التغيير المليئة بتحديات حاملة لتحولات مفصلية وأساسية لم يشهدها العالم العربي منذ فترة طويلة، وكلي ثقة بأنه رغم صعوبة هذه العملية والتحديات العديدة في طريقها فإن النجاح أمر حتمي لهذه التحولات، وقد عدنا إلى التاريخ مجددا لنصنع المستقبل.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي