| نادين البدير |
عقود طويلة ووطني نائم. غارق بنوم عميق.
ينام وطني دون حراك. كالأموات. ينسى حياته وأبناءه ومجده وتاريخه واستقلاله وحضارته. ويغط موافقاً على تجميد مجده دون نقاش.
ينام دون أحلام. دون خيالات. هل يحلم الأموات؟ ربما يفعلون، ربما يتخيلون حياتهم المقبلة. لكن وطني لا يحلم ولا يسرح وليس يملك القدرة على صناعة حلم بسيط تملكه بقية الأوطان، كأن يرى بمنامه أنه يبني مدرسة ابتدائية متطورة وأنه يشرف على مناهجها وبيئتها المتقدمة حتى أني لم أسمعه يوماً يصف مناماً.
وطني الكبير استيقظ مذعوراً قبل أسابيع على وقع أقدام متمردة وصرخات حرية كبيرة وتبريرات أنظمة لا حد لها تسعى لإيجاد أصل للانتفاضات البشرية التي اندلعت دون إنذار.
ماذا حدث؟ وكيف استيقظ وطني العربي المثقل باتفاقيات يموت وفق بنودها دون أحلام؟
من المحيط إلى الخليج... زخم كبير من الإصلاحات. تقدمات كان سعرها حتى الأمس (ثميان ومرتفعا) على المواطن الرخيص بخس الثمن. هبات كانت محصورة على نخبة النخب وأصحاب المعالي وزوار البلاط والحواشي والمقربين. ذهولنا يتضاعف كل يوم والهبات القليلة أو الكثيرة توزع على المنبوذين ممن صنفوا طويلاً ضمن الهامش المعتل. الهامش الذي يشكل القاعدة الشعبية الكبرى في البلدان العربية.
قبل حملة الإصلاحات الداخلية هنا وهناك... أكانت الأنظمة تجهل مآسي الشعوب. منعها ضباب السلطة عن رؤية الواقع بحذافيره؟
أم كانت تعلم تماماً ما يحدث وتتوقع رضوخ الشعب طوعاً وكراهية؟ الأصل في الشعب الصبر على الحاكم بظلمه وعدله. هكذا تقول تفسيرات الشريعة.
وقبل التظاهرات والانتفاضات الشعبية... أكانت المجتمعات جاهلة بحقوقها مكتفية بأن تعد الأيام لتنتهي حياتها وتنتهي مآسيها؟ أم كانت تعلم جيداً ما لها وتتغاضى عن فكرة المطالبة بإنسانيتها؟ شعارها الرضا بالقبيح خوفاً من الأقبح؟
الواقع أن حالة من الانفصال التام كانت أساس العلاقة بين فوق وتحت. البراءة الفوقية والقرف من كل ما يقع داخل دائرة الهامش الأكبر، بأناسها ومشاكلهم ومتاعبهم وأفراحهم وحواريهم وتعليمهم ومصانعهم وجرائمهم وأمراضهم ومآسيهم ونكاتهم وضحكاتهم. وغضب سفلي عارم من ترف الندرة المختارة لأن تكون الأكثر استمتاعاً بخيرات الوطن الطبيعية وغير الطبيعية.
ابتعاد الطبقتين عن بعضهما. إهمال الأقوى لشؤون من تعارف أنه الأضعف... قمعه، استرخاصه، والاستخفاف بقوته. هكذا كانت تسير الأمور إن صحت الاستعارة الهرمسية هنا فكما فوق كذلك تحت القوة البشرية غير المسلحة لا يستهان بها. اقتلعت العروش بأيام معدودة. والنظرية الحاكمة كانت مخطئة تماماً بإغفال دائرة الهامش الأكبر. فالقاعدة لم تكن أضعف مطلقاً. كانت نائمة كالأموات فقط.
زغردت النساء اليوم لأعراس اليقظة المنتشرة بكل مكان. للاحتفال بتعرف الحكام على شعوبهم ومجون حريتهم. من سكنه سحر العرش لم يكن يستمع للمنكوبين رغم أن وظيفته تتلخص بخدمة أفراد مجتمعه وتنظيم مصالحهم.
سحر العرش أغلق الآذان وكمم الأفواه - لكن الآن - مع وقع الأقدام تدك الأرض وتصرع الآذان بإيقاع موسيقاها الثورية... صاروا يسمعون وقع الأقدام. فرصة خالدة لن تتكرر ولا يجب أن نضيعها. أن نحكي ويسمعون. ربما مستقبلاً سيحترمون ما يسمعون لو تمسكنا بالفرصة.
كنا ممنوعين من الكلام وكانوا ممتنعين عن الاستماع. الآن يجبرون على عدم إشاحة وجوههم كالسابق، يرغمون على الإيماء برؤوسهم منصتين لمطالب الشعوب، يحاولون جاهدين إثبات مدى تفهمهم وتعاطفهم ومدى جدارتهم بالعروش التي يحتلونها لعقود.
الجميع من المغرب إلى البحرين... مروراً بالجميع الآن صاروا يعرفون، أو تذكروا أنهم يعرفون، بأن القاعدة الشعبية الكبرى ليست هامشاً معتلاً بل أساس إن غضب أو تأفف يلتهم كل الطبقات أولها الطبقة الفوقية. صاروا كمن يستنجد استغاثة. والكبير بدا هشاً تثار عليه النكات والطرائف.
الآن يقدمون الهبات والترضيات والرشاوى تحت مسمى (الإصلاحات) لعل الشعوب ترضى. لِمَ تكبروا عن تقديمها من قبل؟ ماذا كان سيحدث لو تم توزيع الثروات بعدالة. لو أسسوا لقاعدة تعليمية ثرية. لو بنوا مصانع مشرفة. لو قدموا خدمات بكل المجالات. لو وزعوا الحريات. لو خلقوا الوظائف. لو منحوا مؤسسات المجتمع المدني حقها. لو أعطوا كل مواطن إحساسا بأنه يسكن أرضه ووطنه الحر. ماذا كان سيحدث؟
قبل أن يستيقظ وطني كنت وصلت لمرحلة أكاد أنفي بها فكرة الأوطان. لم أعد أقبل بمفهوم الوطن مكاناً آمناً آسراً... فكلنا صار يبحث عن بديل لوطنه الخائن. البعض بحث بقبيلته أو عشيرته، البعض وجد بعائلته الملاذ والوطن. كثيرون وجدوا في الهجرة واستبدال بلد أخرى بالوطن حلاً قاسياً. وآخرون بالهرب لأحضان العشق واتخاذ المعشوق وطناً خالداً. المهم أن الوطن الأصلي لم يعد وطناً.
عند أدنى انتقاد نوجهه للداخل. كنا نتهم بالعمالة والخيانة وبفقدان الانتماء والوطنية لوطن يخون ويغدر ولا يشعر نحونا بأي انتماء. لم يقدر ولاءنا ولا حبنا، ولم يقدر الدماء التي سالت في الشوارع والأودية فداء استقلاله من المستعمر القديم. ومن النظام الجبار الجديد. من كل المستعمرين.
كان عشيقا خائناً. عشيقا غير محب.
لكن اليوم. أجد ملامحه قد اختلطت بملامح الأحرار والمحبين. بملامح اليقظة. وطني لا ينام. اليوم أحكي بفرح عن وطني العربي الكبير.
أيا كانت تبريرات الحكام، وأيا كانت أسباب مدوني نظريات المؤامرات. لم يعد يهم السبب. الأهم أن الوطن صار يشعر بملمسي حين أعانقه وبحنان قدمي على طرقاته بعد أن فقدت أنا وهو لعقود طويلة قدرته على استشعار وجودي.
بعد هذا الشعور. فإن كانت الحرية مؤامرة، وإن كانت الكرامة والخبز خطة غربية محكمة، فأهلاً بمؤامرة الحرية تفتك بنا فتكاً. تنتزع غضبي. تقتلع كل أثر رجعي بداخلي.
لا تبحثوا عن الأسرار. ليس الأمر لغزاً. هي الحرية وأشياء أخرى لا تشترى.
كاتبة وإعلامية سعودية
[email protected]