مها بدر الدين / ليبيا لن تكون عراقاً آخر

تصغير
تكبير
مع احتدام حدة المواجهة بين الثائرين الليبين وبقايا النظام الطاغي المتمترسين خلف أسوار باب العزيزة في وسط العاصمة طرابس، ومع ارتفاع عدد ضحايا هذا النظام الفاشي الذي لا يتوانى عن استخدام جميع أنواع أسلحته السوداء للقضاء على أنفاس ثورة الشباب الليبي البيضاء، بدت مواقف الدول العظمى، كأميركا وبريطانيا، وكأنها في سباق سياسي محمود لوضع اليد على مستقبل ليبيا ما بعد الثورة، وهو ما يدل على مكانة ليبيا المهمة بالنسبة لهذه الدول التي تجد فيها مناخاً عالي الجودة لمصالحها الاقتصادية والاستثمارية، وقاعدة عسكرية لها في المغرب العربي.

كما تبدو هذه الدول في عجلة من أمرها لحسم مصير القذافي والقضاء على نظامه بعد أن احترقت ورقته ولم يعد له أي قيمة، فنجد أن الحديث عن إمكانية التدخل العسكري لإنهاء المعركة الليبية لصالح الثورة، قد بدأ يتداول بين الساسة الغربيون، وعلى مسمع من جميع القنوات الإعلامية، وان اختلفت حدة هذا الحديث باختلاف مصالح كل دولة من هذه الدول على الأرض الليبية، وباختلاف الرأي بينها بين معارض ومؤيد لضرورة التدخل العسكري الخارجي.

ورغم أن جميع الأطياف الليبية السياسية، ومختلف فئات الشعب الليبي الثائر، والطوائف والعشائر والقبائل الليبية كافة، قد أجمعت على رفضها التام لتدخل أي دولة أجنبية أو جهة خارجية في الشأن الليبي باعتبار أن الثورة الليبية محلية الصنع مئة في المئة، ولا يُراد لأي طابع غريب عنها أن يدمغها، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية تحديداً لا تتواني عن التلويح بإمكانية وضع خيار التدخل العسكري موضع التنفيذ كواحد من الخيارات المتاحة لإنهاء تشبث القذافي بالسلطة، معللة ذلك بأن طول بقائه على النحو الحالي سيؤدي للمزيد من المآسي والكوارث البشرية على الأرض الليبية.

ويبدو أنه ليس الحكام العرب فقط لا يستفيدون من التجارب العملية، ولا يفقهون الدروس التاريخية، ولا يستحضرون الماضي في معالجة الحاضر، فحتى الساسة الغربيون لا يدركون أن ما حصل في العراق لا يمكن أن يتكرر في ليبيا، فالتدخل الأميركي العسكري في العراق كان نتيجة حتمية لتسويق الإدارة الأميركية فكرة محاربة الإرهاب، واحراج الدول العربية الخاضعة آنذاك لشبح الاتهام بالإرهاب إن لم تشارك في محاربته، فشكل الصمت الإيجابي من بعض هذه الدول، والتأييد المعلن والصريح من بعضها الآخر لهذا التدخل، أرضية صلبة بنى عليها الأميركيون وحلفاؤهم قرارهم بدخول العراق لتحريره من الطاغية صدام حسين وإعلان العراق الحر الديموقراطي.

ورغم فشل المشروع الأميركي- البريطاني بإعادة إعمار العراق، وعدم قدرته أو ربما رغبته في خلق نظام ديموقراطي حر يحكمه، وانسحاب القوات الأميركية وحلفائها من الأراضي العراقية تاركة ورائها فراغ سياسي وأمني واقتصادي تجتره البلاد حتى الآن، نراها تلوح اليوم ثانية بتدخلها العسكري في ليبيا غير مدركة أن الوضع الليبي الحالي مختلف تماماً.

فالثورة الليبية ثورة داخلية انتفضت لتغيير نظامها السياسي والاقتصادي القائم ضمن حدودها الجغرافية المترامية الأطراف، وهي ثورة تعي تماماً ظروفها الداخلية وطبيعة نظامها الحاكم، وتتوقع همجية رد فعله في التعامل معها، وبالتالي تدرك مدى خطورة ثورتها والتضحيات التي يجب عليها تقديمها للوصول إلى أهدافها.

وهي ثورة شعبية بامتياز تحاكي في شموليتها ثورتي تونس ومصر فلا جهات خارجية تحركها ولا أحزاب داخلية تصبغها، ولا فئات اجتماعية تسيرها، ولا أجندات معدة سلفاً تسيسها، بل هي العفوية والتجلي والفطرة التي جُبلَ عليها الإنسان حراً كريماً، أبت أن تبقى حبيسة الأنفس، ورهينة الصمت المذل، فانتفضت تطالب بحقها في حياة كريمة، ومستقبل آدمي.

والأهم من هذا أنها ثورة لمت شمل الليبيين على هدف واحد هو بناء دولتهم الحديثة بمقومات بلادهم، اعتماداً على سواعد أبنائها ومن دون أي تدخل خارجي يستهدف في حقيقته وضع يده على خيرات البلاد الخام.

فلقد حبى الله ليبيا موقعاً جغرافياً مميزاً قريباً جداً من الاتحاد الأوروبي، وتمتاز بشواطئها العذراء التي تمتد على الشريط الساحلي للبحر الأبيض المتوسط المقابل لأوروبا مما يؤهلها لتكون سوقاً استثمارياً واستهلاكياً وسياحياً قريباً منها، كما أنها غنية بالثروات الطبيعية عالية الجودة حيث تصنف بالمرتبة الثانية عشرة بين الدول المصدرة للنفط، وتشكل أراضيها البكر ومقوماتها الاقتصادية إغراءاً استثمارياً كبيراً للدول العظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة التي تتسابق اليوم لخطف أول ثمار الثورة الليبية من فم أبنائها بحجة مساعدتهم من التخلص من قذافهم الدموي.

فمتى يدرك هؤلاء الساسة الغربيون أنه لا مكان بعد اليوم لعراق مشوه آخر في مشرق الوطن العربي أو مغربه؟





مها بدر الدين

كاتبة سورية

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي