إيمانيات / صور من زهد أحمد بن حنبل إمام أهل السنة

تصغير
تكبير
| جاد الله فرحات * |

أبو عبد الله أحمد بن حنبل؛ إمام أهل السنة، الذي انقطع للعلم، وأنفق فيه أوقاته، حتى استبطن دخائله، واستقصى أطرافه، فمهر فيه وحذق.

هذا الإمام الذي صبَّر نفسه في ذات الله، فلم ترعه النوائب، ولم تنل من صبره الملمات.

هذا الإمام الذي قال فيه الإمام الشافعي المتوفى سنة 204 هـ: (هو إمامٌ في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة) وتأمل أن الإمام الشافعي قال هذا الكلام، والإمام أحمد لم يجاوز الأربعين، فقد توفي الشافعي وعمر أحمد أربعون.

هذا الإمام الذي كتب له القبول في الأرض، فصار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام احمد، هذا مذهب الإمام أحمد، فرحمه الله رحمة واسعة.

وهذا أوان البدء في عرض سيرته، مكتفياً منها بخلاصتها، ومواطن العبرة والقدوة فيها، لأن الوقت في بسطها يطول ويمتد، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، والله المستعان.

أولاً: تاريخ مولده ووفاته:

ولد الإمام أحمد في بغداد؛ في العشرين من شهر ربيع الأول؛ عام 164هـ، وتوفي في بغداد؛ ضحوة يوم الجمعة؛ الثاني عشر من شهر ربيع الأول؛ عام 241 هـ، وكان عمره يوم مات سبعة وسبعين عاماً، وأحد عشر شهراً، واثنتين وعشرين ليلة.

وقال عنه يحيى بن معين: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد، لا والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد، ولا على طريقة أحمد.

حاله مع القرآن:

وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي يقرأ القرآن في كل أسبوع ختمتين، إحداهما بالليل، والأخرى بالنهار.

وقد ختم الإمام أحمد القرآن في ليلة واحدة بمكة، مصلياً به.

فيا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله، ووأسفا على ما ذهب من أعمارنا في غير مرضاة الله، ويا لمزيد الأسى والأسف على حالنا مع كتاب ربنا؟

حاله مع الزهد والورع:

إنه إمام في الزهد، فحاله في ذلك أظهر وأشهر، أتته الدنيا فأباها، والرياسة فنفاها، عرضت عليه الأموال، وفرضت عليه الأحوال، وهو يرد ذلك بتعفف وتعلل وتقلل، ويقول : قليل الدنيا يجزي، وكثيرها لا يجزي.

ويقول : أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء، ويقول : إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام قلائل.

وقال إسحاق بن هانئ بكرت يوماً لأعارض أحمد بالزهد، فبسطت له حصيراً ومخدة، فنظر إلى الحصير والمخدة فقال ما هذا؟ قلت : لتجلس عليه، فقال : ارفعه، الزهد لا يحسن إلا بالزهد، فرفعته وجلس على التراب.

وقال أبو عمير عيسى بن محمد بن عيسى وذكر عنده أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها.

قال المروذي : كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت، خنقته العبرة.

وكان يقول : الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت، هان علي كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.

وقال: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة.

قال المروذي: وذكر لأحمد أن رجلا يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له - اللقاء الذي لم يرغب فيه الإمام أحمد هو الذي يراد منه ذيوع الصيت والتكلف. أما لقاء الناس لتعليمهم ما جهلوا من أمر دينهم، وإسداء النصح لهم، وصلة أرحامهم، وزيارتهم في المناسبات المشروعة، فهو مما يرتضيه ويرغب فيه، لأن ذلك مما يحمده الشرع ويحث عليه.

فقد روى الإمام أحمد، وابن ماجة، والترمذي بسند قوي من حديث ابن عمر مرفوعا : «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».

قال إبراهيم الحربي: كان أحمد يجيب في العرس والختان ويأكل.

وذكر غيره أن أحمد ربما استعفى من الإجابة.

وكان إن رأى إناء فضة أو منكراً خرج.

وكان يحب الانزواء عن الناس، ويعود المريض، وكان يكره المشي في الأسواق، ويؤثر الوحدة.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول : أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس.

وقال الميموني: قال أحمد: رأيت الخلوة أروح لقلبي.

قال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب : أخمل ذكرك، فإني أنا قد بليت بالشهرة.

وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أن يتبعه أحد.

قال الذهبي: إيثار الخمول والتواضع، وكثرة الوجل، من علامات التقوى والفلاح.

قول من ذهب :

قال المروذي: قلت لأحمد : كيف أصبحت؟

قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطلبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟

وقال زكريا بن يحيى الضرير: قلت لأحمد بن حنبل : كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مفتياً؟ يكفيه مئة ألف؟ فقال: لا، إلى أن قال : فيكفيه خمس مئة ألف حديث؟ قال: أرجو.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، أي ما يساوي مليوناً.

ماذا قالوا عنه:

قال قتيبة: لولا الثوري لمات الورع، ولولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين، قيل لقتيبة:

تضم أحمد بن حنبل إلى أحد التابعين؟ فقال: إلى كبار التابعين.

قال ابن المديني: ليس في أصحابنا أحفظ منه.

وقال محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: سمعت أبي يقول: أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه.

وبإسناده قال علي بن المديني: أحمد بن حنبل سيدنا.

قيل لـأبي زرعة من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ قال : أحمد بن حنبل، حزرت كتبه في اليوم الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر جملاً وأكثر، كلها يحفظها عن ظهر قلب.

ومع هذا العلم الجم، فقد خاف الإمام على نفسه البروز والشهرة والتصدر، فلم يجلس للتدريس إلا بعد الأربعين من عمره، كما قال ابن الجوزي رحمه الله، وما ذاك إلا مراعاة لسن النضج والاستيثاق من العلم.

وكان من شدة ورعه رحمه الله أنه لا يحدث إلا في كتاب خشية الزلل.

عبادة الإمام أحمد:

صفحة أخرى في حياة هذا الإمام الهمام، صفحة العبادة وتصفية الروح، وتزكية النفس بالصلاة والذكر والدعاء والتلاوة، وكذلك صفحة الخلق الرفيع، والسجايا الحميدة، زهدٌ وحياء، تواضعٌ وورع، تعففٌ وجود، بذلٌ وكرم، حبٌ للفقراء والمساكين، بعدٌ عن الشهرة والأضواء وحب الظهور، وكثرة الجماهير، مجانبة للرياء والسمعة.

قال ابنه عبد الله : كان أبي أحرص الناس على الوحدة، لم يره أحدٌ إلا في المسجد، أو في حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق، ولا يدع أحداً يتبعه، وتلك والله مقامات العظماء النبلاء، ومناهج العلماء الأتقياء.

ولم يكن الإمام بمعزلٍ عن الأمة والمجتمع، بل كان عالماً عاملاً، مصلحاً مجاهداً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لكنه مع ذلك يلتزم مسالك الرفق والحكمة، ملتزمٌ بالطاعة، موافقٌ للجماعة، بعيدٌ النظر في الإصلاح.

ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ، وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين، اشتد له غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران.

فليت الأمة اليوم وليت شبابها يتوجهون بعقولهم إلى علماء سلفهم؛ ليتذكروا القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة حتى تحيي في أنفسهم سيرة سلفهم الصالح رحمهم الله، وسيرتهم خير طريقٍ لسعادة الدنيا والآخرة، وضمانة من الفتن، وبعدٌ عن المحن والله المستعان، قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [ الأحزاب23-24].

واعلموا أيها الأخوة... أن الأمة إذا لم تعتز بماضيها، وسير علمائها، والاستفادة من تاريخها ؛ ضيعت حاضرها ومستقبلها، واضطربت مكانتها، وتخبط أجيالها.

رحم الله الإمام أحمد بن حنبل رحمة واسعة ونفعنا بمحبته وجمعنا به في جنات النعيم.آمين

إمام وخطيب
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي