شئنا أم أبينا، قبلنا أم رفضنا، وافقنا أم خالفنا، إنما هي حقيقة مؤلمة جميعنا مضطر لأن يتفاعل من خلالها ويتعايش معها، إلى أن تنضج، إلى أن تؤتي أكلها، وتثمر زهراً بدلاً من برسيماً!
تطور المجتمعات له دورة حياتية من الطفولة إلى الينوعة إلى الشيخوخة، ولا ندري بعدها ما الذي سيحدث!
في داخل المجتمعات نستخدم آليات إنما هي مرتكزات لبناء الأوطان، تتفاعل العلاقات بين أفراد المجتمع عبرهذه الآليات من أجل التحسين والتطوير ضمن شعار التغيير. كل ذلك التبدل والتغير، نحو الأمام أو نحو التراجع، يتم من خلال لغة الخطاب المتداولة والمتبادلة بين الأطراف المجتمعية كافة، لا أحد من أفراد البلاد من العباد يخرج عن هذه الآلية الرئيسية في التخاطب بلغة بشرية مع الطرف الآخر وإلا صرنا كائنات غابية بوصفهم للغاب، والغابة من الوصف براء!
علّمونا ودرّسونا بل وحفظونا أن عملية الاتصال بين طرفين بعناصرها الخمسة، لن يتحقق مرادها إلا عندما نتقن أداءها... لن أكون مرسلاً موصلاً لرسالتي في التغيير إلا إذا أتقنت قواعد الإرسال، ولن أكون مستقبلاً جيداً مترجماً للأداء إلا إذا حظيت بقنوات سمعية مقننة، وهكذا في الوسيلة الاتصالية بيننا، وكذلك ماهية القضية المرسلة أيضاً.
عزيزي القارئ كما يقولون إن سقف الحرية في التعبير عن الرأي عندنا في بلادنا عال وليس بنازل، ويقولون أيضاً وهم فرحون ان بلدنا بلد الديموقراطية... ما شاء الله نحن مغبوطون من الدول من حولنا، نحن مغبوطون من الشرق الأوسط كله، نحن حسادنا كثر في العالم أجمع!
يا ترى بنظرة ثاقبة عميقة رابطة بين سقف الديموقراطية العالي وسقف التراجع في المؤشر التنموي، على ماذا يدلك قارئي العزيز؟
المنطق السليم في تقييم تطور الدول والمجتمعات يقول انه كلما ضمنّا لأفراد الشعب حقوقهم الأساسية كلما ازدهرت تلك الدول وهذه المجتمعات، كلما تحرر الشعب من قيود التعتيم والتغييم والتكبيل في كبت حريته الشخصية، وأهمها التعبير عن الرأي، كلما ارتقت البلاد بفعل سواعد أبنائها. أليس هذا هو المنطق، أليست هذه هي القاعدة الصحيحة من مقدمات ونتائج في حياة الشعوب؟
المراقب للأوضاع في البلاد يلحظ عكس ذلك تماماً، سقف التعبير عن الرأي الحر مرتفع جداً إلا أن الكل يشتكي من الكل، والكل يضجر من الكل، والكل يتهم الكل بتوقف عجلة التطوير والتحسين. أنا أعتقد يقيناً أننا بعد في مخاض ولادة ومبادئ استيعابنا لكيفية توظيف حرية التعبير عن الرأي، وأكاد أجزم أننا ومع فرحنا بتميّز نلناه ولكننا ضيّعنا معه بوصلة الاتجاه الصحيح في استثماره.
عزيزي القارئ من يؤصّل لنا ضابط الحرية في الكلام؟ المفكرون غائبون، والمتصدورن في المجتمع هم الشتامون والصارخون والمهاجمون واللاسعون اللادغون! هم يعتقدون أن لغة الحوار الهادئ ما عادت تجدي، هم يعتقدون أن الصراخ هو وسيلة نافعة من وسائل سقف الحرية العالي، هو حق مكتسب لنا نحن أفراد الشعب!
طيّب سؤال بريء، وهل لغة الصراخ قدمت الكويت أنموذجاً مستثمراً للديموقراطية بالنهج الصحيح أمام العالم الغابط لنا كما يقولون، هل الراصد للشفافية التنموية في بلادنا قد أهدانا إحصاءيات تشير إلى أن الكويت الأولى في كذا، والخامسة في كذا، والثالثة ما شاء الله في كذا أيضاً، هل التراشق عبر وسائل الإعلام جعلنا في مصاف أهل التطوير والتحسين لمجتمعاتهم، هل ساهمنا بحروبنا الكلامية في رقي المواطن الكويتي في بلادنا، هل أدرك المواطن قيمة الحرية حينما علّمناه دروسا عملية في النقد واللسع؟
فكر معي عزيزي القارئ ما الذي أضافته لغة التحدي الصارخ وفرد العضلات على كل جانب وعند كل زاوية... الكل غصة في بلعوم الكل، والكل بالع لأمواس التعطيل، فلا هو مخرجها ولا هو هاضمها!
عزيزي القارئ آسفة حقاً، آسفة على ضياع أسمى مقومات التحسين المجتمعي للدول وشعوبها، لغة الخطاب الراقي بقواعده العلمية الصحيحة. إذا كان الطرف الآخر صاماً لأذنيه فهذا لا يبرر لي الصراخ، بل نتعلم معه لغة الإشارة. إذا كان الطرف الآخر أعمى فإني أتواصل معه بلغة اللمس. وإن كان الطرف الآخر أبكم فإن الأقلام والأوراق كثيرة في المكتبات. إذا كان الطرف الآخر مشلولاً بما كسبت يداه، سؤال أيضاً بريء... يا ترى هل المشلول سلاحي معه هو الضرب والركل، أم أن سقف التصابر والمصابرة والاصطبار بالحكمة هو الشعار اللصيق لكل منافح ذائد عن بلاده، أين المرونة التكيفية من ذوي التصدر في البلاد؟
في حقيقة الأمر نحن ما استثمرنا شيئاً في بلادنا، لا عقول الشباب، ولا الحريات، ولا الأموال، ولا غيرها، وإن كان هناك استثمار فإنه بعد لم ينضج ما زال في المخاض الأول، الانحدار لسان حالنا ومقالنا، سيل الانهزام المجتمعي مستمر في طوفانه ونحن مازلنا نتراشق ونتلادغ في الندوات والمحاضرات، والشعب يتهم الحكومة والحكومة تتهم ممثلي الشعب، والشعب متفرج فخور بالديموقراطية... والبادي أظلم!
هيام الجاسم
كاتبة كويتية