نادين البدير / «رموني بعقم»

تصغير
تكبير
| نادين البدير |

اللغة العربية تختنق. هذا شعوري كلما رأيت أطفالا يتداولون اللغات الأجنبية في حديثهم بدلا عن العربية أمام عائلاتهم التي تراقبهم بفخر وزهو، حتى كان أن نسوا لغتهم الأم وصار درس اللغة العربية في المدرسة منهجاً دخيلا على حياتهم اليومية الحضارية المتقدمة.

هل اللغة جزءا من الهوية؟ وهل يكون دفاعي عنها تعصباً؟

صحيح أن اللغة جزء من إرث ومن تراث وتاريخ. وليس سهلاً استبدالها أبداً. لكني لا أدافع عن العربية بصفتها إرثاً أو جزءاً من تكوين أو هوية كما أني لا أعادي الهوية العالمية، بل دفاعي عن اللغة العربية يعود لصفاتها الجمالية النادرة.

هذه اللغة السهلة المعقدة، الجريئة، القوية، لا أدري، بإمكانك أن تحكم عليها من جهات عدة وزوايا عدة، ستراها بحكم مختلف في كل مرة تعتقد أنك وصلت لحل شفرتها وفك الطلاسم عنها. قاموسها الهائل الحافل بالرموز والتعابير والمترادفات يشير إلى تداخل قديم لقوى غامضة عدة ساهمت في خلق لغتنا وبعثها للحياة.

أن تهيم خيالاً بجملة أدبية عربية يعني أن تصل لحال من السحر، هكذا اتهم بعض مؤلفيها بأنهم سحرة. بالفعل فأعاجيب اللغة العربية قريبة من الجنون.

ألاعب أحد أطفال العائلة، أدهشني وهو يستخدم اللغة الفصحى أثناء اللعب متأثرا بأفلام الكرتون المدبلجة، صرنا نتحدث الفصحى أنا وابن الثالثة من العمر. جاءت أمه وقالت له: إنغليش حبيبي، تكلم انكليزي لا تحكي عربي أبداً.

لكنه يتحدث الفصحى بطلاقة طفولية وأخطاء بديعة.

لا. أدخلته مدارس أجنبية حتى لا أسمعه يتحدث العربية.

هي لا تريد أن تسمعه يتحدث العربية، وأمهات أخريات لا تريد أن تتذكر أن ابنها عربي، كأن اللغة دليلا يذكرهن ببيئة يجهدن لنسيانها. خاصة وهن يتواجدن الآن ضمن بيئة أخرى أكثر أرستوقراطية ولا بد من تحقيق الانتماء لها. واحد من أساليب الشعور بالانتماء هو تغيير اللغة واستبدالها.

تريد أن تثبت للجميع الطبقة التي تعيشها وتثبت أن ابنها يرتاد واحدة من أغلى وأرقى المدارس.

لم أفهم منذ صغري البنات في المدرسة حين يتحدثن الانكليزية خارج الحصة المقررة لها، هل كان تدريباً عليها أم كان مباهاة؟

في أوروبا يدرس الشباب اللغة الانكليزية لكنه لا يتحدث بها في الحياة العامة إلا لأغراض تتطلب ذلك كالعمل والسياحة والتجارة، إذ لديهم لغتهم الجميلة التي يحبونها ولا يريدون لها بديلا. خاصة وأن لديهم أشياء أخرى يفاخرون بها ويتباهون بممارستها غير التواء الألسن وارتداء الأقنعة المزيفة.

فما بال أهل العربية التي قال عنها حافظ إبراهيم:

رموني بعقم في الشباب وليتني

عقمت فلم أجزع لقول عداتي

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

أَرى لِرِجالِ الغرب عِزّاً ومنعة

وكم عز أقوام بعز لغات

أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا

فيا ليتكم تأتون بالكلمات

هذه اللغة ليست عجوزاً ولم تشيب ولن تشيخ. منذ تكوينها وهي تعيش أجمل مراحل العمر. لغة متجددة مذهلة، لا تحتاج لأصباغ أو لجراحات، فالجمال واحد من تعريفاتها، وحين تبحر معها وتحبها، أظهر لها حبك. ستحبك وستمنحك بركتها. ستمنحك الكثير.





كاتبة وإعلامية سعودية

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي