اللّسع واللّدغ مترادفتان في اللغة لمعنى واحد إلا أن اللّسع هو الضّرب في المؤخّرة، واللّدغ لما كان في الفم، ورجل لسّاع ولسعة أي عيّابة مؤذ قرّاصة للناس بلسانه، يقول الأزهري في اللغة: المسموع من العرب أن اللسع لذوات الدّبر من العقارب والزنّابير، وأما الحيّات فإنها تنهش وتعضّ وتجذب وتنشط، فنقول عن العقرب لسعته ولسبته وأبّرته ووكعته وكوته وفي الحديث النّبوي «المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين» أي لا يدهى المؤمن من جهة واحدة مرتين، فإنه بالأولى يعتبر، بضم الهمزة على الألف، ويقول الخطابي: المؤمن هو الكيّس الحازم الذي لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع مرة بعد مرة وهو لا يفطن لذلك ولا يشعر به، وحينما نقول رجل تلسعه الحيّات والعقارب فلا يبالي، فإنه يقيم بين غنمه!
عزيزي القارئ بدلاً من تلاسع العقول المفضي إلى النخر في مجتمعنا، وبدلاً من تلادغ النفوس الناهش في ناسنا، هم الناس في بلادي، بدلاً من ذلك كله نحن نرتقب تلاقح العقول وتناغم النفوس فهما المنبتان للحضارة والأصالة في مجتمعنا... نهش ونخر ولدغ ولسع وقرص، كلها مزعجات تهشيمية وتهميشية تدك بنيان الأفراد والشعوب والمجتمعات دكّا دكّا!
أنت وأنا ندرك تماماً أن أصل تلك الصفات التي ذكرتها في المقدمة هي صفات لصيقة في الكائن الحيواني ولا يعاب بها من يسلكها من الحيوان، ولا ينتقص من قدره ولا يعيبه إن كان لاسعاً وقارصاً ولادغاً لمثيله من الحيوان، فذلك هو ديدن حياته، يحمي نفسه من خلال قرصاته ولدغاته ولسعاته، بل وإن هذا هو المتاح عنده والبديل له لصقل الذاتية عنده! أما بني الإنسان فلا حاجة لي لأن أبرهن لك على أن من يسلك تلك المسالك فهي مذمّة ومنقصة ومعيبة في حقه!
عزيزي القارئ لا تصنيف لأدبيات الأخلاق عند الكائن الحيواني، لا قيمة لمعنى الأخيار والأشرار، لا شريعة تلزمهم الانضباط ومع هذا لو أن حيوانا تجاوز الحد مع حيوان آخر فإن شريعة الغاب التي نضرب الأمثال في سوئها، لا تسمح له بذلك بل إن ربنا عز وجل وهو العادل سبحانه يقتص للمظلوم من الحيوان في اليوم الآخر!
لا قانون غابة يحكم عالم الحيوان وإنما هي الفطرة والغريزة تسيّرهم بلا عقول بلا أفهام، لذا فنحن نتوقع منهم غير المتوقع ومع هذا فإنهم سائرون وصائرون في سنن كونية تعجب منها يرصدها أهل الاختصاص بعالم الحيوان، منظمّون في حماية أنفسهم وحماية من هم حولهم، النهش عندهم لأسباب، واللسع في منظومتهم تحت مبررات، واللسب والوكع ما هكذا لمجرد الانتقام بالإيذاء وإنما سبحان الخلاّق كل شيء عندهم بمقدار وتحت حجج وبراهين!
أعتقد عزيزي القارئ رسالتي إليك قد وصلت وأدركتها حق الإدراك! إن بني الإنسان يعيش في ظل سيادة دولة ويحكمها دستور للضبط والانضباط و مرادف له ومنبثق منه قوانين، وإن كان كثير منها غير مفعّل جدياً، وإن كان كثير منها يحتاج أيضاً إلى تعديل وضبط من جديد، ومع كل تلك السيادة إلا أن الناس في بلادي تنحدر عند كثير منهم مسارات الأخلاق، باتت الخزّة حرباً، والكلمة صراعاً، والهفوة حرقاً، بات شعارنا (بقوة الأيدي نأخذ حقوقنا)! يا ترى هل المجتمع بات فقيراً في أخلاقه، أو جاهلاً بها، أو أن الثقة قد اهتزت بالقنوات الرسمية لنيل الحقوق ورفع المظالم؟
كلما ازداد النهش بين الناس في بلدي كلما ازداد معه النخر في بنية مجتمعي، حتى ما يعود لنا أعمدة بنيان ولا مقومات قيام لذا تلزمنا حقاً نشر ثقافة الأدبيات في ضبط التعامل فيما بيننا... تصور معي عزيزي القارئ أننا كنّا فيما مضى وما زلنا نغذّي عقول صغارنا بتلك الأدبيات ظنا منّا أننا ما نحتاج لأن نغذيها في كبارنا إلا أنه يبدو للعيان أن الأمر قد اختلف بما يدمي قلوبنا حقاً، هل يمكنك أن تقبل مني وأنا أيضاً أن أقوّمك في خلقك، أنت ستفهم من تقويمي لك أني أتهمك في خلقك، حتماً لا لن تقبل مني بل وأتوقع منك أنك ستصرخ في وجهي قائلا، وهل أنا جاهل أو طفل حتى يأتيني أمثالك ويرشدني، أليس هذا هو لسان حالنا ومقالنا؟
لاحظ معي عزيزي القارئ، لأننا ظنّنا في أنفسنا أننا قد بلغنا مبلغ النضج في أخلاقنا، فالكل يظن أنه راق ومتفوق في أدبياته مع الآخرين بل ويناظرك بعين الاستئساد إن أنت حاولت أن تهدئ من روعه أمام موقف استفزازي قد حدث له!
الواقع المجتمعي اليومي الذي نعيشه ينبئنا بفشو وانتشار، بل واستفحال ثقافة التهاجم والتباري في التصارع فيما بيننا، وكأنني أشتمّ رائحة طفو السوء في الأخلاق كظاهرة قد اعتلى وغلى فورانها ونضج طبخها حتى احترقت قدورنا وقدور من حولنا!
لا أريد أن أسلط الضوء على حادثة حصلت هذه الأيام ولا غيرها، فالاحداث تتجدد وتستجد وليس من الحصافة أن نكتب عن جزئيات أحداث هنا وهناك في بلادنا وغيرها، فإنها حتماً ستتوالد وسيجرؤ بعضنا على بعض بامتياز طالما أن ثقافة الآنحدار إلى السفاسف قد سيّدناها فيما بيننا واشتريناها بثمن غال جداً، وبعنا بثمن بخس في مقابلها ثقافة المعالي والارتقاء بالأخلاق!
أجراس الإنذار تطرق مسامعنا... الجرس سيتوقف يوماً ما، الإنذار سيزداد ولا أدري هل من محترق قلبه على بلادنا قبل أن تحرقنا بضاعة السوء في أخلاقنا!
هيام الجاسم
[email protected]