تقرير / العربي «منبوذ» في جنوب السودان والانفصال قائم بانتظار اعتراف رسمي

تصغير
تكبير
| جوبا (السودان) - من سامي كليب |

نظرات الريبة والشك التي تلاقي الزائر العربي لمدينة جوبا في جنوب السودان لا تدع أي مجال للشك بأن الجنوبيين ما عادوا قابلين باي شكل من اشكال الوحدة مع الشمال العربي ولا المشروع الاسلامي، وباتوا يفضلون الغرب أولا والجوار الافريقي ثانيا. وليس غريبا أن يمد الزائر العربي يده لمصافحة أحد ابناء جوبا فترتد اليد الاخرى الى الوراء وتحل مكانها نظرة فيها من العدائية ما لا يبشر بأي خير.

هو التاريخ الاستعماري ربما، وهي الحرب التي امتدت اكثر من عشرين عاما لا شك، ولكن هو أيضا التأجيج المباشر وغير المباشر الذي تبثه دعاية الحركة الشعبية في الجنوب بغية الانفصال عن الشمال السوداني.

ليس غريبا والحالة هذه أن يسمع الزائر العربي في جوبا عبارات من نوع «لا نريد عربا هنا»، وهو أمر يدعو فعلا للتساؤل عن سر هذا الحقد الدفين والمعبر عنه بوسائل مختلفة، اقلها الرغبة الفعلية في الانفصال، واسوأها تنامي مشاعر العنصرية، كرد فعل تاريخي على عنصرية اخرى كانت على ما يبدو تمارس ضد جنوبيين في شمال السودان.

تقول عواطف وهي باحثة سودانية في علم الاحياء وناشطة في مجال مكافحة الايدز، : «كنت ادرس في الخرطوم، وكنت كلما مشيت مع صديقتي السودانية الشمالية، يتضاحكون علي ويقولون لها بشيء من السخرية، لماذا تسيرين مع زيتونه «والزيتونه هنا تشير الى اللون الأسود، وتروي كيف أنها، هي المسيحية، كانت تضطر لارتداء غطاء الراس وثيابا طويلة فضفاضة لتناسب مباديء الشريعية الاسلامية المفروضة في شمال البلاد.

لا شيء في جوبا يشبه الخرطوم، فالجنوب يبدو منفصلا فعليا عن الشمال، ولو جاء الصحافي مثلا بتصريح شمالي للعمل هنا، فقد يلاقي شيئا من السخرية، ويسارع مسؤول الاعلام للمجاهرة بشيء من العصبية والغضب : «هذا لا نعترف به هنا، نحن دولة مستقلة في ظل النظام القائم حاليا، وان كنت تريد ان تعمل بهذا التصريح فما عليك سوى العودة الى الخرطوم».

فوضى عارمة في جوبا. وعاصمة الجنوب تشبه الى حد بعيد ما كانت عليه بيروت اثناء سيطرة منظمة التحرير والميليشيات المسلحة، لا تدري من يوقفك في الطريق، ومن يطلب هويتك، والازدهار الاقتصادي الذي شهدته في السنوات الخمس التي أعقبت اتفاق «نيفاشا» للسلام، منذ عام 2005 بات يؤكد في ذهن المواطن الجنوبي انه كلما ابتعد الجنوب عن الشمال كلما تحسن وضعه.

وعلى أهميتها فان مساحيق الاقتصاد لا تلغي تجاعيد الحرب ومفاعيل النزوع نحو الانفصال، وليس غريبا أن الفندق اللبناني ذا الخمس نجوم القائم في جوبا والذي يعتبر الأول من نوعه هناك رغم حداثة انشائه، ليس غريبا ان يكون مضطرا لتوظيف 12 حارسا جنوبيا مسلحين برشاشات الكلاشينكوف، وما ان ينتصف الليل حتى تغلق كل الأبواب الخارجية خشية تكرار عملية السطو المسلح التي تعرض لها سابقا حيث تم سلب 22 ألف دولار من صندوق الفندق.

لكن مديره ناظم فياض رجل الاعمال الناجح وابن بلدة أنصار الجنوبية، والمولود في سيراليون، يقول ان جوبا تغيرت كثيرا في السنوات

الخمس الماضية، وان القيادة الجنوبية تسهل مهمة المستثمرين بحيث أن اجراءات البناء والاستثمار في الجنوب باتت أكثر سهولة مما هي عليه مثلا في الخرطوم، ويروي كيف أنه حين غامر بالمجيء الى عاصمة الجنوب الخارجة لتوها آنذاك من عقدي الحرب، لم يكن أي شيء يوحي بحياة عصرية، فلا سيارات ولا فنادق ولا بنى تحتية، واضطر ان ينام مع اقربائه في غرفة بنوها مما تيسر حتى يبدأوا العمل، أما اليوم فان فندقه المكون من 92 غرفة يبقى مليئا 100 بالمئة طيلة العام تقريبا.

وبات هشام فياض قريب ناظم الماليء المكان حيوية وروح نكته، بات يعرف كل مسؤولي الحركة الشعبية وحكومة الجنوب، وليس مفاجئا عن ترى على طاولته قياديا جنوبيا يتناول المنقوشة بالزعتر او البيتزا المطعمة بنكهة لبنانية.

يبدو أبناء الجنوب السوداني فرحين بقرب انفصالهم عن الجنوب، يحدوهم الأمل أنه بمجرد الانفصال ستسيل أنهار اللبن والعسل، وسوف يبيض النفط ذهبا خالصا، ويحل النعيم محل الحرمان والفقر، وهذا بالضبط ما يشاهدونه في جوبا التي صارت فيها زحمة السيارات والمحال العشوائية، وحركة فنادق غريبة من نوعها، ذلك ان غرفة متواضعة في فندق مبني من الواح الالومينيوم قد تكلف ما بين 200 و 300 دولار لليلة الواحدة.

وعلى غرار ما كانت عليه بيروت في عهد الميليشيات، فان سيارات الدفع الرباعي والجيبات تجوب الشوارع على نحو عشوائي، تتخللها مئات الدراجات النارية، وشبان ينتظرون عند جوانب الطرقات يرصدون كل حركة غريبة في مدينتهم، وأما الغرباء فحدِّث ولا حرج، من القوات الدولية الى المبعوثين الدوليين الى المبشرين بالمسيحية.

ولو ابتعدت أمتارا قليلة عن فندق «صحارى» اللبناني، فستجد يافطة لفندق مجاور مكتوب عليها «Shalom». لم يعد غريبا في جوبا ان تسمع عن اسرائيل وتشاهد آثارها في السياسة والأمن والحركة التجارية، وان عز الأمر مباشرة، فلما لا عبر الاصدقاء الاريتريين الذين يحركون الكثير من الفنادق هناك.

وفي الطريق الفاصلة بين فندق «نيوسلام» والمطار، تسير تظاهرة تضم اكثر من 200 شخص، كلهم رهبان وراهبات سود، يتربع الصليب الكبير على صدورهم، وكأنما للقول بأن وجهة المدينة ستكون بعد اليوم غربية مسيحية افريقية.

يتصور المرء كيف ستكون حال الدكتور حسن الترابي منظّر الاسلام الحديث في السودان، لو شاهد تلك التظاهرة، هو الذي صدَّق يوما ما بأن مشروعه الحضاري الاسلامي سيعم الجنوب ويمتد عبره صوب الجوار الافريقي، ولما لا صوب العالم أجمع.

تشكل جوبا لا شك فشلا ذريعا للمشروع الاسلامي، وقلما تجد مسؤولا جنوبيا من الحركة الشعبية او من معارضيها، لا يحمل «الهيمنة العربية الاسلامية» مسؤولية ما حدث وسيحدث للجنوب وغير الجنوب.

هذا منصور خالد وزير الخارجية السابق والقيادي في الحركة الشعبية الجنوبية رغم أنه شمالي، يقول صراحة في كتابه عن الجنوب والهيمنة والقمع، ان العروبيين في السودان هم الذين أوصلوا الاوضاع الى ما هي عليه بسبب استعلائهم وقمعهم. ويسعى هذا المثقف السوداني اللامع والمتهم بالدوران في مناخات أميركية، للتأكيد على أن الحركة الشعبية كانت مع قائدها الكاريزماتي جون قرنق وحدوية الى أقصى حد وان كل ما يقال عن علاقتها باسرائيل ليس سوى صنيعة أوهام العروبيين.

وفي الشمال أيضا قد تجد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة وطائفة الانصار منتشيا وقلقا في خيمة حديقة منزله الفسيح في ام درمان. فأما النشوة فلأنه يشهد بأم العين تفكك مشروع ما بقي من الجبهة الاسلامية في النظام الحالي، ذلك أن الرجل يحمل حقدا دفينا على من خلعوه من السلطة. وأما القلق فليقينه بأن الانفصاليين في الجنوب لا يفرقون بينه وبين الترابي او عمر حسن البشير، فالهدف هو كل عربي اسلامي، على الاقل في مرحلة اولى.

يسوي الصادق المهدي ثوبه السوداني الأبيض، يمسد لحيته المحنّاة، ويقول ان ما وصل اليه الجنوب من نزوع نحو الانفصال وما قد تصل اليه مناطق اخرى كدارفور او أبييه، «انما هو تعبير عن فشل حتمي كان سيصل اليه النظام».

ويطرح المهدي حلولا لانقاذ البلاد خشية التغلغل الاسرائيلي الغربي وتطويق الامن العربي من الجنوب، ومن هذه الحلول مثلا مفوضية حكماء او قمة سياسية تضم الجميع لبحث المستقبل السياسي للبلاد، وهو حين يطرح مثل هذه الافكار فانما تدغدغه على الارجح فكرة الاطاحة بالنظام الحالي.

ولكن اللبن والعسل الموعودين في الجنوب، قد ينقلبان علقما على دعاة الانفصال، فالصراعات الجنوبية - الجنوبية كثيرة، وها هو موقع وزارة الخارجية الفرنسية على الانترنيت يؤكد مثلا انه منذ العام الماضي قتلت تلك الصراعات اكثر من 9 الآف شخص.

وليس أفضل من الدكتور المهندس لام أكول زعيم ومؤسس حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان - التغيير الديموقراطي، أي الحزب الذي انشق عن الحركة الشعبية، ليس أفضل منه للتعبير عن طبيعة الصراعات، فهو يشن حملة شعواء ضد حكومة الجنوب ويتهم الحركة الشعبية بزعامة سلفاكير ميارديت ( نائب الرئيس السوداني ) بالسعي تحت تأثيرات غربية لفصل الجنوب.

التقيته في أحد فنادق جوبا، حيث كان شارك لتوه في مؤتمر جنوبي-جنوبي بغية الاتفاق على المرحلة المقبلة، فأكد على ضرورة وقف احتكار الحزب الواحد في الجنوب للسلطة، أي الحركة الشعبية، وعلى أن الانفصال قد لا يحصل لو أن الاطراف الاخرى قالت كلمتها، وجدد التأكيد على ان الحركة الشعبية هي التي تنمي مشاعر الانفصال عند الجنوبيين، ولكنها لا تسيطر على الشارع الجنوبي.

يبدو أن في ما يقوله لام أكول كثيرا من الصحة، فاذا كانت الحركة الشعبية تستند خصوصا الى المد الشعبي القبلي الذي تمدها به قبائل الدينكا، فماذا عن قبائل النوير والشُلُك الجنوبية، وماذا عن قبائل المسيرية العربية التي ستدخل على الارجح في مرحلة النزاع المسلح الخطير مع قبائل الدينا نقوك في منطقة أبييه ما لم يتم الاعتراف بحقها في الرعي والثروة النفطية والحدود.

لعل هذا بالضبط ما يراهن عليه أهل الشمال السوداني رغم خطورة الأمر، فثمة قيادات شمالية بارزة تقول دون رغبة في ذكر اسمها، ان الانفصال قادم لا شك في ذلك، ولكنه قد لا يدوم طويلا، ذلك أن تناحر الجنوبيين بين بعضهم والمشاكل التي قد تقع عند الحدود، سترهق الجنوبيين وتضعضع قواعدهم وترهق اقتصادهم، وربما بعد ذلك تقوم وحدة جديدة على أسس اخرى. وهم في ذلك لا يستبعدون المقارنة مع ما حصل بين شمال وجنوب اليمن.

وهذا بالضبط ما تسعى الدول الغربية لتجنبه، وهذا ما يفسر الزخم الكبير في الدعم السياسي والاقتصادي والأمني الذي تقدمه أميركا ودول غربية وبعض الدول الافريقية للجنوب. في ذهن هؤلاء، ينبغي ان تنجح التجربة الانفصالية الجنوبية لكي يشتد الطوق على نظام الرئيس عمر حسن البشير.

وماذا عن العرب؟

كاد السؤال يستحق مجرد ابتسامة ساخرة، ولكن ثمة وعي عربي متأخر لا بد من الاشارة اليه، فها هي مصر المهددة قبل غيرها بانفصال الجنوب تكثف المساعدات الانسانية والاجتماعية والطبية، وذلك بعد ان كانت نسجت في السنوات القليلة الماضية علاقات ود مع القيادات الجنوبية بغية كسب ودها. وها هو أحد أبناء الشيخ زايد من الامارات يأتي بمشروع زراعي اقتصادي بحوالى 200 مليون دولار، وبينهما عقدت جامعة الدول العربية مؤتمرا في عاصمة الجنوب بغية تعزيز الاستثمار وأواصر الصداقة.

ولا يخفي نائب رئيس مجلس النواب السوداني أتيم قرنق وهو أحد القيادات الجنوبية، رغبته الواضحة في أن يأتي المستثمرون العرب للعمل في الجنوب، ويقول بشيء من اللؤم التاريخي : «متى سيخرج اخواننا العرب من حس المؤامرة، ويتعاملون مع الواقع، وبدلا من أن يتركوا اسرائيل وغيرها تدخل الى الجنوب، فليأتوا ويقيموا علاقات اقتصادية وسياسية، فاسرائيل دولة صغيرة وفقيرة بالمعنى الاستثماري وهم اثرياء والجنوب مساحات شاسعة من الاراضي القابلة لكل انواع الاستثمار».

لعل الجانب الجغرافي والاستثماري في ما يقوله صحيح، فحين كانت الطائرة تحلق بنا فوق الجنوب، كانت المساحات الخضراء والغابات والاراضي الخصبة ونهر النيل والطبيعة الخلابة والامتدادات الشاسعة لتلك الاراضي تدفع الى سؤال واحد : «لماذا يقتل العرب دولهم واحدة تلو الاخرى، وهم قادرون على الاكتفاء الذاتي لو وضعوا مجرد استراتيجية زراعية بسيطة».

لا شك ان الجواب صعب خصوصا ان عددا من القادة العرب لا يعرفون على الارجح أين تقع جوبا، ومن هي قبائل الدينا والنوير والشلك والمسيرية وغيرها، ولا يعرفون ان هذا السودان المجاور لثماني دول وذو المساحات الشاسعة، والذي منه تستورد شركتا كوكا كولا وبيبسي كولا الصمغ العربي بدراهم قليلة، هو منجم من الثروات الطبيعية التي ستضيع على الارجح شبرا خلف شبر بينما نبني لغيرنا ناطحات سحاب على الرمال.

ولمن يود معرفة شيء في الوقت الراهن عن السودان، فمفاده، ان البلاد مقبلة على مصير قاتم، وان الانفصال سيجر الانفصال، وان مؤامرة كبيرة تحاك ضد السودان الذي لم يبق لشعبه الطيب والمحب تاريخيا للعرب وقضاياهم، سوى جلسات «الونس» حين تغيب الشمس فوق نهر النيل.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي