محمد الدلال / أفكار / أزماتنا وصناعة المستقبل

تصغير
تكبير
وين رايحه البلد؟ البلد سمارى، مراكز النفوذ تعتبر الدولة موقتة، مرحلة اقتسام البلد، والمستقبل مجهول، الخوف على مستقبل أجيالنا القادمة!

عبارات تطلق وبكل أريحية في معظم الدواوين، والبيوت، وفي وسائل الإعلام المختلفة، فالواقع يعكس تجذر رؤية تشاؤمية لمآل الأمور ومستقبل الدولة وأهلها، ولن استطرد في ذكر تلك الانطباعات ولكنني من خلال هذا المقال سأشير إلى غياب أحد مناهج وأدوات التفكير العقلي السليم في تحليل الواقع واستشراف المستقبل، وهو علم المستقبليات والذي به نستطيع أن نقرأ واقعنا بموضوعية، ونتنبأ علمياً بالمستجدات المستقبلية والتعامل معها، ونخطط وننفذ بشكل سليم لحماية بلدنا وأهلنا والنهوض بهم.

ان علم المستقبليات علم بحد ذاته له اصوله الموضوعية العلمية، ويعتبر من أسس التفكير العلمي الحديث، كما أن لهذا العلم أدواته التي من خلال تطبيقها نتمكن من دراسة الواقع والمؤثرات التي فيه، ومن خلال معرفة الأطراف الفاعلة، وأنماط أدوارها وتعاقبها، وإضافة فوق ذلك ما يمكن توقعه من استمرار ظروف ومؤثرات خاصة، أو عامة، أو متغيرات مستقبلية، يمكن بعد ذلك الوصول إلى تحديد عدد من النتائج لما يمكن أن تصل فيه تلك الأطراف من أعمال وتصرفات في المستقبل، ولتقريب ذلك العلم للقارئ نذكر المثل المتعارف عليه من قدرة الأبوين بمعرفة والتنبؤ بتصرفات أبنائهم المستقبلية نظراً لاسلوب التنشئة وطبائع كل ابن من الأبناء، وهو أمر واقع ومشاهد من الجميع. وينبغي الإشارة إلى أن علم المستقبليات علم موضوعي يختلف عن التنجم والكهانة، أو معرفة الغيب، والتي تعتبر من الأمور المخالفة للشرع الحنيف.

ويعتبر علم المستقبليات علما متطورا في الغرب له اصوله ومناهجه ومدارسه ومؤسساته التي تمارسه في القطاعين العام والخاص، ويوظف للتأثير والتغيير والتخطيط في جميع مناحي الحياة وبالأخص السياسية والاقتصادية، أما في عالمنا العربي أو الإسلامي فهو علم مهمل إلا في ما ندر، ولذلك ليس بغريب أن نجد أنفسنا في بلادنا نتخبط ونراوح ونضيع الكثير من الأموال والجهود بسبب عدم استعدادنا علمياً وموضوعياً للمستقبل ومتغيراته، ويعزى ذلك بلا شك إلى غياب القيادة والإدارة المبدعة، والتخلي عن النظريات الحديثة في إدارة الدول والمؤسسات، والاستمرار في النهج الفردي والقدرات الخاصة في تصريف الأمور.

والكويت، وبالأخص في القطاع الحكومي، مثال حي وواقعي وصارخ للتخلف والتخبط الإداري والسير على البركة والابتعاد، أحياناً عمداً، عن العلوم والنظريات الحديثة في الإدارة، والأمثلة أعتقد معروفة ومكررة لدى الجميع. ما يهمنا في هذا المقام هو كيف نلزم الإدارة الحكومية ومؤسسات القطاعين العام والخاص بتبني هذا العلم واعتماده كاحدى الوسائل المنهجية لاستشراف المستقبل، ومن ثم تعزيز الرفاهية والخير للبلد وأهله، وكذلك توقع الأسوأ في جميع جوانب الحياة، والعمل على الاستعداد له بالوقاية والعلاج المبكر، وفي ذلك سأضرب بعض الأمثلة المتفرقة أدناه لتقريب الفكرة المعروضة.

مثالي الأول، السكن في الكويت، والإقامة، والعمل فيها... قضية مهمة وهي كذلك مشكلة المشاكل في حال إهمالها، فنحن نعاني من الحجم الكبير للعمالة، كما نعاني رداءة وجودة العمالة القادمة من الخارج، والتي لا تتناسب في نسبة كبيرة منها مع متطلبات التحديث والتطور، ولا يفوتنا أن نشير إلى قضية غير محددي الجنسية (البدون) واستمرار كرة الثلج دون حسم للمشكلة مما عرض تلك المسائل للتجاذبات السياسية على حساب المصلحة العامة، وهنا يقترح أن يفعل العمل بعلم المستقبليات ضمن أدوات التخطيط لعلاج هذه المسائل في المستقبل، فمشكلة زيادة السكان في ارتفاع وخطورة، فزيادة أعداد الأجانب على المواطنين لها آثارها السلبية، واستمرار مشكلة البدون دون استشراف للمستقبل يعني أزمة أمنية وأخلاقية ومجتمعية قد تنفجر لا قدر الله في وجه الجميع.

أما مثالي الثاني، فهو انعدام الرؤية المستقبلية، أو حتى الحس الوطني، من خلال اللعب الخطير بالنار، والذي يمارس من خلال تمزيق الوحدة الوطنية وتفريق المواطنين بحسب انتماءاتهم المذهبية، أو العائلية، أو القبلية، أو الفئوية، وبلا شك أن اللاعبين هم الساسة، وبعضهم في موطن المسؤولية في الحكومة والمجلس، وفي اعتقادي أن قارئ المستقبل يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الفتنة من خراب ودمار وأوضاع سلبية وخطيرة في حال استمرارها، وكل من العراق ولبنان ليسا عنا ببعيد، ان استشراف المستقبل من خلال مناهجه وأدواته يدفعنا للتصدي لتلك الأزمة المفتعلة، ويساهم في تعزيز لحمتنا الوطنية.

والأمثلة التي يمكن الإشارة إليها كثيرة ولا تحصى، وإشارات سريعة لا تضر... فالنفط في الكويت عصب الحياة، ودخول الساسة ومراكز النفوذ الخاصة للتأثير في قراراته ومشاريعه سيؤدي إلى عواقب وخيمة وهو أمر محتوم، ومن جانب آخر استمرار الحكومة في تعمد إهمال مواجهة غول الفساد الإداري والمالي، وإهمال ما يؤدي إليه ذلك مستقبلاً من خراب ودمار على الرغم من التحذيرات المحلية والدولية كافة، والتحركات المحلية سواء كانت مجتمعية أو برلمانية مشاهد، وعملي من خلال مقترحات ومشاريع تواجه تنامي السوس الذي ينخر في الدولة والمجتمع.

وفي أزمة مقبلة لا محالة وهي أزمة نقص المياه في دولة صحراوية الطقس مثل الكويت، يتطلب أن نفعل علم المستقبليات لضمان استمرار تدفق المياه بصور عدة ومن مصادر مختلفة لتحقيق متطلبات المعيشة، فما فائدة الأموال الطائلة إن لم يتم توفير مياه كافية، والدراسات المستقبلية كافة تؤكد أن الحروب المقبلة مرتبطة بالمياه وندرتها في إطارنا الإقليمي.

وأخيراً... كيف نتعامل مستقبلياً مع التحديات الحالية والمستقبلية والمرتبطة بإيران وامتلاكها للسلاح النووي، وأفكارها في الهيمنة والتوسع، وكيف نستعد حالياً ومستقبلاً للعراق الملتهب والمرشح للتأزم اكثر مما هو عليه، وكيف نواجه مستقبلاً الفكر والفعل الصهيوني المدمر للمنطقة في ظل التخلف العربي والهيمنة الغربية؟

ان غياب القيادة الحكيمة والإدارة النوعية في السلطات الدستورية هي مشكلتنا الأساسية والتي بقيامها ووجودها يوفر علينا جهودا كبيرة للتقدم والإصلاح والتطوير، بما في ذلك استخدام أحدث النظريات في إدارة الدول، ومعالجة أزماتها، واستشراف مستقبلها، والعمل على التفكير المسبق لنهضة الشعوب والدول، وفي هذا المقام مطلوب حالياً على مستوى الحكومة، وكذلك القطاع الخاص والمجتمع المدني، أن تقام مؤسسات تمارس أدوار التفكير والتخطيط من خلال منهجية علم المستقبل ومن ثم تقديم المقترحات والحلول اللازمة في هذا الشأن، كما يقترح أن تعمد جامعة الكويت والجامعات الخاصة إلى تبني منهج دراسي أساسي لعدد من التخصصات العلمية (السياسة، الاقتصاد، وغير ذلك من علوم) يساهم في تطوير البناء العقلي والمهني المستقبلي للطلاب والطالبات، هذا ما نرجوه ونتطلع إليه. والله المستعان.



محمد الدلال

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي