مفكرون خلف القضبان (الأخيرة) / فاطمة اليوسف منعت أخبارا عن الثورة... طالما بقي ابنها مسجونا

إحسان عبدالقدوس... ضد الثورة

u0625u062du0633u0627u0646 u0639u0628u062fu0627u0644u0642u062fu0648u0633
إحسان عبدالقدوس
تصغير
تكبير
| القاهرة - من حنان عبدالهادي |

السجن قد يقيد الأجساد، لكنه حتماً لن يقيد الأرواح، ولن يكبح جماح بركان الابداع، بل قد يضاعف ثورتها وفورانها، ويزيد اشتعالها.

وهذا ما حدث مع نخبة من المفكرين والكتاب والصحافيين والادباء والشعراء والمبدعين والعرب وغير العرب، الذين اقتيدوا الى السجن، في عهود متباينة، لاسباب سياسية في الغالب، وفكرية وثقافية ودينية أحياناً، أغلبها مفتعلة، تنحصر في عدم تأييدها لمواقف الأنظمة من قضايا داخلية أو خارجية.

وبالرغم من صور الذل والاهانة والقمع، التي تعرض لها أبطال هذه السلسلة من حلقات «مفكرون خلف القضبان» - التي تنشرها «الراي» تباعاً في «فوانيس رمضان» فإنهم لم يركنوا أو يخنعوا أو يخضعوا أو «يبيعوا القضية»، بل ظلوا صامدين على آرائهم ومواقفهم، كما أن ينابيع الابداع ازدادت تدفقاً، فأثمرت أعمالاً، يتضاعف لمعانها وبريقها بتقادم السنين.

وفي هذه الحلقات نعرض لـ15 شخصية مصرية وعربية، من الرجال والنساء، زج بهم خلف القضبان لأسباب سياسية بحتة، ونعرض جانباً من معاناتهم ومأساتهم «وهذا هو الجانب المظلم»، أما الجانب المضيء، فيتجلى في أن تلك الشخصيات، استفادت من محنتها في انتاج وابداع روايات وقصص وأشعار وكتب، تبقى عنواناً مهماً لحقبة من تاريخ هذا الوطن، كما تبقى عنواناً على ان قائمة الابداع أعلى وأطول من أسوار السجون، حتى لو عانقت السماء.

 

هو أحد أعلام الفكر والصحافة العربية، دخل المعتقل وتعرض للقتل بسبب مقالاته الجريئة، ولكنه كتب أيضا روايات كثيرة عن المرأة والرومانسية والعلاقات المجتمعية... إنه إحسان عبدالقدوس الذي لم ينضم لأي حزب من الأحزاب أو أي جماعة سياسية لكن البعض كان يعتبره شيوعيا وآخرين كانوا يعتبرونه من الإخوان، لكنه نفى في كل الأحوال الصحافي الحر الذي لا يخشى إلا الحق ولم يمنعه السجن من أن يتخلى عن أدبه وإبداعاته...

في العام 1945 كتب إحسان عبدالقدوس مقالا ضد السفير البريطاني بعنوان «هذا الرجل يجب أن يذهب»، وكان «محمود فهمي النقراشي» رئيسا للوزراء، فصادر المجلة وأمر بتوقيف إحسان وأودع سجن الأجانب، وشهد مكتب وكيل النيابة مناقشة حامية بين الأم «روزاليوسف» والابن «إحسان عبد القدوس»... كل منهما يريد أن يتحمل مسؤولية المقال.



اعترض على ضرب السنهوري

انحاز «إحسان» إلى الديموقراطية البرلمانية بحسب حوارات أجراها الزميل الكاتب والروائي المصري يوسف القعيد مع الراحل إحسان عبدالقدوس وثار بعنف على ضرب الدكتور «عبد الرازق السنهوري» في مكتبه بمجلس الدولة وذهب لزيارته في بيته. وكتب 3 مقالات لمجلة روزاليوسف تحت عنوان «الجمعية السرية التي تحكم مصر». فاقتيد إلى زنزانة انفرادية في السجن الحربي من يوم 29 أبريل العام 1954 حتى 31 يوليو من العام نفسه. وكان قد طالب بضرورة خروج جمال عبدالناصر وزملائه الضباط من الجيش وإعادة الحياة النيابية «كضمان لحياة سياسية مستقرة».

كان يوم دخوله السجن الحربي نهاية لصداقته لضباط ثورة يوليو ونهاية لتأييده لما قاموه به.

وكانت «فاطمة اليوسف» تعتقد أن ابنها «إحسان» حسن النية أكثر ما يبنغي ولم يدقق في جوهر من وثق بهم من دون حذر أو روية)، وأصدرت تعليماتها بعدم ذكر أسماء هؤلاء الضباط على صفحات المجلة مادام ابنها مسجونا، ولم ترد كلمة واحدة في المجلة عن «ثورة يوليو» كأنها لم تحدث أبدا، ولم تذهب «فاطمة اليوسف» إلى لقاء «عبدالناصر» حين طلبوا منها ذلك.



مقالة عبدالناصر

خرج «إحسان» من السجن الحربي صباح يوم 31 يوليو 1954، وما أن وصل إلى بيته ليجد التليفون يحمل إليه صوت جمال عبدالناصر يضحك ويقول له: «هيه اتربيت ولا لسه يا إحسان» طيب تعال إفطر معايا، ما تتأخرش أنا منتظرك».



عودة إلى السجن

ومرة أخرى في العام 1954 أخرجوه من بيته عنوة، ورغم نعومة الثعابين التي لقيها من زوار الفجر، وجد نفسه في السجن الحربي متهما بالتآمر على الثورة، وأن شريكه في المؤامرة اعترف عليه، ويجب أن يعترف هو الآخر بالمؤامرة، وكانت هذه المرة للاستمرار في الضغط على أعصاب الكاتب الكبير، لكنه وهو في أثناء جلسة التحقيق دق جرس التليفون، وإذ بصوت «جمال عبدالناصر» يقول له «أعمل إيه بس يا إحسان... اعذرني». وأعادوه إلى بيته وهو يحدث نفسه: إننا في العام الثاني للثورة... ماذا يكون عليه الحال بعد عشرة أعوام؟! وجرت بعد ذلك 4 محاولات لاغتياله - «حسب ما ذكر إحسان نفسه.

لم ينضم إحسان عبدالقدوس إلى أي حزب من الأحزاب أو إلى أية جماعة سياسية من الجماعات، أتاح الفرصة للشيوعيين في المجلة، وظن الكثيرون أنه ماركسي ولكنه قال: «أنا مسلم فحسب... ولست شيوعيا ولن أكون يوما ما»، وتعرف على الإخوان المسلمين... ولكن لم يجد من يقتنع به سوى «الشيخ حسن البنا». وظنوا أنه ينتمي إلى «الحزب الوطني مصطفى كامل»، ولكنه وصف بـ «أنه جامد غير متحرك إلى حد البرود السياسي». واقترب من الأستاذ أحمد حسين زعيم «مصر الفتاة»... وانتهى إلى أن مصر الفتاة «ليس سوى الطبعة المصرية من الحزب النازي في ألمانيا الهتلرية».



مدافع عن حرية الرأي

وإحسان عبدالقدوس - فضلا عن الدور الأدبي بحسب ما خط الأستاذ يوسف القعيد - هو جزء متوهج من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي في نصف القرن الأخير، ولأنه كان يحتمي بالصمت في الفترة الأخيرة وكان يردد أنه يهرب من المقال السياسي إلى جنة القصة والرواية، فالحديث مع إحسان عبدالقدوس يحاول أن يعرض بأسلوب مباشر وبسيط، كيف يفكر صاحب «في بيتنا رجل»، و«لا تطفئ الشمس»... وسيجد فيه قراؤه خلاصة لموقف الرجل وآرائه وأفكاره.

إحسان عبدالقدوس... تخرج أصلا في كلية الحقوق وعمل محاميا لمدة العام ونصف العام، وكان أول ما نشره قصيدة من الشعر المنثور نشرها من دون توقيع، وكان أول راتب له قدره عشرة جنيهات، وتولى رئاسة التحرير وعمره 26 عاما فقط وهو الصحافي الذي فجر قضية الأسلحة الفاسدة، وهي إحدى القضايا التي مهدت لثورة يوليو وحمل قلمه وقاد به المعارك، ومصر الملكية يتصدع أسسها ببطء، وعاصر الثورة وهي مجرد حلم في الأذهان وكان صديقا لرجالها.

قال إحسان عبدالقدوس: إن السجن في بلد حر أفضل من الحرية في بلد سجين. وكانت قضية حرية الرأي أهم قضايا عمره، وقال أكثر من مرة: إن اليوم الذي يمر عليه من دون أن يكتب قصة... يوم لا قيمة له.



رفض الوساطة لابنه

يتذكر الكاتب بـ «الراي» يوسف القعيد عندما تقابل مع إحسان، أنه لا يحب المحسوبية أو المجاملة، حتى عندما تم سجن ابنه في عهد السادات فيذكر « قال لي إنه قابل مع غيره من الصحافيين الرئيس السادات في القناطر الخيرية بعد اعتقال ابنه محمد، وإن السادات لحظة خروجه توقف أمام إحسان وقال له إنه حبس ابنه محمد. فرد عليه إحسان: المهم أن يتم كل شيء في إطار سيادة القانون، وقبل أن ينصرف سأله: تحب أفرج عنه يا إحسان؟ فقال إحسان: إنه لا يحب أي شيء استثنائي. ما يسري على غيره يسري عليه، ولأن هذا الحديث أجري بعد اغتيال السادات. وقبل الإفراج عن الذين اعتقلهم السادات. فقد لاحظت عليه رغم أن محمد ابنه كان في السجن وقت إجراء الحديث، فإن الرجل كان يتكلم عن السادات بشكل ما من أشكال الحب. وهذا حقه.



اختلف مع الرئيسين

وبالرغم من أختلاف إحسان عبدالقدوس مع الرئيسين جمال والسادات، فإنه كان قدم تقييما عادلا لكل رئيس، وكان صديقا مع السادات الذي سجن ابنه في عهده، ويقول عنه إحسان « صداقتي بالمرحوم أنور السادات لم يؤثر فيها تباعدنا العام، واختلافاتنا السياسية فكنت محتفظا بصداقته، وأعتقد أنه هو الآخر ظل محتفظا بصداقتي، رغم التباعد، ورغم الخلاف، ورغم أن ابني محمد كان من بين المتحفظ عليهم، فهي صداقة تعود إلى عمر طويل بدأت منذ العام 1948، وقد تعرضت هذه الصداقة لكل ما شمل هذا العهد من أحداث، ورغم ذلك لم تتأثر، لأنها لم تكن مجرد صداقة عمل، ولكنها صداقة تقارب على المستوى الشخصي وتفاهم في الهدف الوطني رغم الاختلاف في وسائل تحقيق هذا الهدف. بالنسبة لأنور السادات، أضعه في الإطار الذي أضع فيه كل تاريخ مصر منذ بدء الثورة. فقد تولي حكم مصر منذ بدء الثورة 4 رؤساء أؤمن بأن كلا منهم قام بدوره ثم انتهى عندما انتهى هذا الدور.



يرفض الاستسلام

وبالرغم من كفاح إحسان ومقالاته الجريئة التي عرضته للاغتيال والاعتقال، لكنه كان رجلا قدريا فكان يقول « من طبيعتي الاستسلام للقدر، فأنا مؤمن بالله وبأن الله يحب مصر، وبذلك يجعل القدر يتطور بها من مرحلة إلى أخرى ويختار لكل مرحلة ما يناسبها من الرجال وأن يتحمل مسؤوليتها».

يمثل أدب إحسان عبدالقدوس نقله نوعيه متميزه في الرواية العربية إلى جانب أبناء جيله الكبار من أمثال: نجيب محفوظ ويوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله، لكن إحسان تميز عنهم جميعا بأمرين أحدهما أنه تربي في حضن الصحافة، وتغذى منذ نعومة أظفاره على قاعدة البيانات الضخمة التي تتيحها الصحافة لاختراق طبقات المجتمع المختلفة، وكانت الصحافة، وصالون روزاليوسف والعلاقات المباشرة بكبار الأدباء والفنانين والسياسيين ونجوم المجتمع هي المنبع الذي أتاح لإحسان عبدالقدوس أن يصور الجوانب الخفية في الحياة المصرية، ويتخطى بذلك كثيرا من الحواجز التي حالت بين زملائه وبين معرفة هذه البيانات، أما الميزة الثانية لأدب إحسان فهي أنه كان عميق الإيمان بقضية الحرية، بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

عاش إحسان عبدالقدوس ودرس ككاتب سياسي وروائي، فهو ينتسب لجيل الأربعينات المجيد، وهو جيل ضباط يوليو نفسه، فلقد عاش كصحافي يؤمن بحرية الرأي والتعددية وحق الاختلاف وسط الغليان السياسي الذي يجسد انهيارات النظام الملكي في مصر، فكان موقف إحسان السياسي هو رفض النظام الملكي والأحزاب التقليدية.

ظل إحسان يدافع عن آرائه وحريته والدليل على تمسكه بآرائه وعدم قدرته على البقاء في وجه أعداء الكلمة أنه ترك العام 1974 رئاسة مؤسسة «أخبار اليوم» لخلاف مع «أنور السادات»، وقيل بسبب نشر مقالات لمصطفى أمين بعد خروجه من السجن من دون علم إحسان وأصبح كاتبا متفرغا بالأهرام، ثم أصبح العام1975 رئيسا لمؤسسة تحرير الأهرام ثم تركها فجأة بعد شهور، وقيل بسبب رفض إحسان نقل بعض من كتاب وصحافيين يساريين، كذلك رفض إغلاق «مجلة الطليعة» التي كان يرأسها لطفي الخولي، وسافر إلى الخارج فترة ثم عاد كاتبا متفرغا في الأهرام، ولاحظ القارئ حينها أنه صمت عن الكتابة في السياسة، وانفجرت موهبته القصصية والروائية فأبدع كمًّا غزيرا من الأعمال بعد قراره ألا يتولى مناصب صحافية أو رسمية، «عرض عليه السادات أن يصبح وزيرا فاعتذر».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي