خيرالله خيرالله / ليس عيباً الاستفادة من تجربة مصر...

تصغير
تكبير

في حال كان الفلسطينيون، بغض النظر عن الجهة التي ينتمون إليها، يريدون كسب احترام العالم، عليهم قبل كل شيء الابتعاد عن المزايدات التي تصدر عن هذه الجهة أو تلك. من هذا المنطلق، ما يفترض قوله لـ«حماس» بالفم الملآن إنه يؤمل منها التصرف بحكمة وعقلانية والتركيز على مشاريع تخدم الشعب الفلسطيني بدلاً من زيادة بؤسه. هناك أمور أهم ما فيها ما ترمز إليه. مجرد التفاوض مع مصر واللجوء إلى مصر، من أجل البحث في مستقبل العلاقات مع السلطة الوطنية ومستقبل معبر رفح، له رمزيته. مصر هي في النهاية أكبر دولة عربية. مصر هي الدولة العربية الأولى التي وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل في العام 1979. مصر هي من أدركت قبل غيرها ألا حلا عسكرياً للصراع في المنطقة. مصر تعرف إلى أين تأخذ الشعارات من نوع «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». إنها تعرف خصوصاً الويلات التي جلبتها تلك الشعارات على المواطن المصري العادي. مصر خاضت حروباً مع إسرائيل ودفعت غالياً من دم أبنائها. لم تصل إلى ما وصلت إليه إلاّ بعد تجارب طويلة وصعبة جعلتها تستوعب معنى الحروب ومآسيها.

ذهب وفد «حماس» إلى القاهرة من أجل التوصل إلى صيغة تؤمن للحركة السيطرة على معبر رفح من الجانب الفلسطيني، على أن تكون السيطرة من الجانب الآخر لمصر. بكلام أوضح، تطرح «حماس» صيغة تتجاهل الواقع على الأرض أو الاتفاقات الموقعة بين السلطة الوطنية الفلسطينية من جهة وإسرائيل والمجتمع الدولي، على رأسه الاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى. والأهم من ذلك، لا يبدو أن «حماس» تريد أن تأخذ في الاعتبار وضع مصر والتزامات مصر، من منطلق أنها دولة تنتمي إلى المجتمع الدولي ومؤسساته وتحترم القانون الدولي. ولهذا السبب عاد الوفد الحماسي من القاهرة خالي الوفاض.

هل تدرك «حماس» معنى اللجوء إلى مصر، وهل في استطاعتها استيعاب رمزية الخطوة التي أقدمت عليها وأبعادها... أم تعتقد أن إرسال وفد إلى القاهرة والمطالبة من هناك بالدخول في مفاوضات من دون شروط مع الرئاسة الفلسطينية والسلطة الوطنية يغطي حال الإفلاس التي تعاني منها؟ منذ متى صار الهروب إلى أمام سياسة؟ كان أفضل تعبير عن الإفلاس الحماسي تدمير الحدود بين القطاع ومصر رداً على الحصار الاسرائيلي الظالم الذي يتعرض إليه أهل غزة. بدلاً من البحث في كيفية التخلص من الحصار بشكل نهائي والعمل على ضبط الأوضاع الداخلية في غزة، كان تدمير للحدود وانتقال الفلسطينيين بمئات الآلاف إلى رفح المصرية وإلى العريش. هذا ليس سوى علاج موقت لتفادي البحث في أساس المشكلة يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً في أحسن الأحوال. ولكن ماذا بعد تدمير الحدود وإغلاق المتاجر في العريش وفي الجهة المصرية من الحدود إثر نفاد المواد الغذائية؟

ليس عيباً السعي إلى الاستفادة من التجربة المصرية. في مرحلة ما، لا مفر من العودة إلى أرض الواقع. إذا كان في نية «حماس» إقامة كيان تحت سيطرتها في غزة، سيكون ذلك ممكناً شرط التوقف عن إطلاق الصواريخ «العبثية» في اتجاه إسرائيل. لقد انسحبت إسرائيل من القطاع الذي تمنت دائماً التخلص منه من دون تنسيق مع الجانب الفلسطيني بهدف واضح. تريد التفرغ لابتلاع جزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. من يطلق صواريخ من غزة يخدم مخططات الاحتلال الإسرائيلي لا أكثر وذلك لسببين. الأول أن الاستراتيجية الإسرائيلية قائمة على فكرة عدم وجود شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. أما السبب الآخر فهو أن حصار غزة يكرس وجود كيانين سياسيين منفصلين وسلطتين فلسطينيتين على غرار ما كان الوضع عليه في العام 1967.

بدلاً من اللف والدوران والاستعانة بمصر مع ما يترتب على ذلك من مسؤوليات، يمكن لـ «حماس» اختصار الطريق إلى فك الحصار عن القطاع. أمام الحركة التي استطاعت أن تشكل الحكومة الأولى لتنظيم «الإخوان المسلمين» في العالم العربي، وذلك منذ تأسيسه في العام 1928 الإعلان عن إقامة كيان في غزة. لن يكون من يعترض على مثل هذا الكيان سوى أهل غزة الذين سيتوجب على «حماس» أن تحكمهم بالحديد والنار والميليشيات المسلحة كما تفعل الآن. الكيان المستقل هو الخيار الأول. أما الخيار الآخر، فيكون في العودة إلى أحضان السلطة الوطنية الفلسطينية من دون شروط ومفاوضات ولا من يحزنون. وفي الحالين، سيترتب على الحركة الإسلامية التوقف عن إطلاق الصواريخ. تكمن أهمية خيار العودة إلى أحضان السلطة في أن ذلك سيساعد الفلسطينيين عموماً في الحصول على دعم المجتمع الدولي الذي يدرك أن لدى الرئاسة الفلسطينية وحكومة الدكتور سلام فياض برنامجاً سياسياً واضحاً يدحض طرح الاحتلال الذي لا يريد تسوية معقولة ومقبولة.

في كل الأحوال، من المفيد الأخذ برأي مصر ذات التجربة الغنية في التفاوض مع إسرائيل. هذا ليس عيباً. ولكن ما قد يكون مفيداً أكثر الاستفادة من التجربة المصرية، الابتعاد عن الأوهام. كل الشعارات التي تطلقها «حماس» وهم بوهم بدليل الحال التي وصل إليها أهل غزة. كل ما في الأمر أن الحركة تحوّلت أداة تستخدمها قوى إقليمية ليكون الشعب الفلسطيني وقوداً في معارك لا علاقة له بها. استُخدم هذا الشعب في الماضي في الأردن ولا يزال يُستخدم في لبنان. الآن صار يُستخدم وقوداً لمعارك الآخرين في فلسطين نفسها... الفضل في ذلك يعود إلى الحكومة الأولى لـ«الإخوان المسلمين» التي لم تستطع الخروج من أسر أيديولوجية بائسة وعقيمة في ألا تشبه سوى أيديولوجية اليسار الفلسطيني الذي ظن في السبعينات من القرن الماضي أن الدعم السوفياتي كفيل بتحرير فلسطين. هل من يريد أن يتعلم شيئاً من الماضي القريب؟ هل من يريد الاعتراف بأن المشروع السياسي الذي ينادي به «الإخوان» سقط... وكان سقوطه في غزة عظيماً بفضل ممارسات «حماس» في القطاع؟ كرست هذه الممارسات الطلاق مع الواقع وحوّلت الشعب الفلسطيني إلى «شعب متسول»! إنها بكل بساطة نهاية ما يُسمى الإسلام السياسي كما يراه «الإخوان المسلمون»... الحبل على الجرار، ذلك أن أول الغيث قطرة!


خيرالله خيرالله


كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي