صاحب رسالة «تدبير المتوحد»

ابن بـاجـة: اتركوا التقليد وارجعوا إلى الأصل

تصغير
تكبير
إعداد: عبدالله متولي

في الوقت نفسه الذي كان فيه ابن باجة، أبوبكر محمد بن الصائغ (ت 533) بصدد انتاج خطاب فلسفي جديد، ويؤسس لمشروع فلسفي يتحرر ليس فقط من القيود السياسية التي كانت تكبل الفلسفة قبله، بل يتحرر كذلك من القيود المعرفية التي عانت منها الفلسفة داخل الثقافة العربية والاسلامية الى عهده، «في الوقت نفسه» كان المهدي ابن تومرت ينشر دعوته ويعمل على تنظيم حركته داخل المغرب لقلب دولة المرابطين، وبناء دولة الموحدين.

والواقع أن دولة المرابطين تلك، هي ذاتها من استنجد بها كبراء الأندلس من علماء وفقهاء ووجهاء، لوضع حد للحرب الأهلية بين ملوك الطوائف بها، وردع أطماع ملوك الفرنجة فيها، حين كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولعل ذلك كان هو الأساس الذي من أجله اتخذ ابن تومرت شعار «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» سلاحا دينيا، واتخذ شعار «ترك التقليد والرجوع الى الأصول» سلاحا «عقيديا موجها» (أيديولوجيا)، لتوجيه الضربات الى الكيان الديني والأيديولوجي لدولة المرابطين (التي كانت خاضعة لنفوذ الفقهاء)، ولتأسيس الدولة الموحدية في الغرب.

في هذا المناخ المشحون بالصراعات السياسية والأيديولوجية والدينية أيضا، وكما أن ابن تومرت كان قد اعتمد على «ترك التقليد» في حركته التغييرية، لم يكن من الغريب أن ينبني مشروع ابن باجة على قاعدة: «ترك التقليد والرجوع الى الأصول». صحيح أنه يصعب اقامة صلات مباشرة بين ابن باجة وابن تومرت، الا أن مما لا شك فيه أن تيار التجديد في الغرب والأندلس، سواء في العقيدة أو في الشريعة أو في اللغة أو في الفلسفة، كان تيارا واحدا، والواقع، أن «ترك التقليد والرجوع الى الأصول»، كان قد ساهم في تحرير الخطاب الباجي ليس فقط من اشكالية التوفيق بين النقل والعقل، ولكن أيضا من اشكالية توظيف العلم في دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين، ليعود العلم، كما كان مع أرسطو: «الأساس الذي تبني عليه الفلسفة صرحها».

من هنا، كانت المادة العرفية التي تعامل معها ابن باجة في خطابه الفلسفي، مادة علمية أساسا، نقصد بذلك، اعتماده الكلي على علم عصره، أي طبيعيات أرسطو، في بناء حلمه الفلسفي الذي تضمنته رسائله «الالهية»، وبالخصوص منها: رسالة «تدبير المتوحد»، أشهر رسائله كافة.

في هذه الرسالة، «تدبير المتوحد»، حرص ابن باجة على تمييز «التوحد» عن «التصوف» وطريق المتصوفة، اذ ان «التوحد» عنده سلوك عقلي هدفه اكتساب المعرفة النظرية البرانية (الفلسفية) بحقيقة الكون ومركز الانسان فيه. أما ما يدعيه المتصوفة من «كشف» أو«مشاهدة»، انما هي عنده حالة سيكولوجية ناتجة عن تجميدهم لقوى النفس الثلاث: الحس المشترك والمخيلة والذاكرة، بواسطة ما يسمونه رياضات ومجاهدات، فيركزون في ذهنهم على صورة واحدة، يرسمها لهم خيالهم، عن الموضوع الذي ينشغلون به - وهذا ما يسمى بـ «الجمع» - فيحضر هذا الموضوع في ذهنه في شكل «صورة روحانية» (أي: ذهنية، لا مادية) ناصعة مشبعة كأنها محسوسة،

ويضيف ابن باجة: «ويشاهد العجيب من فعلها (...) ولذلك زعم الصوفية أن ادراك السعادة القصوى قد يكون من دون تعلم، بل بالتفرغ، وبألا تخلو طرفة عين عن ذكر المطلق، ولأنه متى فعل ذلك اجتمعت القوى الثلاث وأمكن ذلك»، ثم يستطرد قائلا: «وهذه كلها ظنون، وفعل ما ظنه أمر خارج عن الطبع».

وفيما يبدو، عبر رسالة ابن باجة هذه (تدبير المتوحد)، فان الخطاب الباجي كان - في حقيقته - خطابا فلسفيا خالصا يتحرك في دائرة الفلسفة والعلم. أما دائرة الدين، فهو يتعامل معها كدائرة مستقلة مبنية على الوحي، وهي في نظره من «المواهب الالهية» التي: «لا تكون باختيار الانسان وليس له في وجودها أثر يدخل في هذا القول (= الفلسفي)، وأيضا فانها موجودة في الفرد من الناس في النادر من الزمان، فلا تقوم من هذا الصنف من الموجودات صناعة أصلا (أي علم) ولا نحوه تدبير انساني».

بل ان ابن باجة يفصل بين دائرتي الدين والفلسفة فصلا تاما، فنراه يقول: «ان صالح السلف قالوا ان للامكان صنفين: صنف طبيعي، وصنف الهي. فالطبيعي هو الذي يدرك بالعلم ويقدر الانسان على الوقوف عليه من تلقائه. أما الصنف الالهي فانما يدرك بمعونة الهية، ولذلك بعث الله الرسل وجل الأنبياء ليخبروا معشر الناس بالامكانات الالهية كما أراد عز اسمه من تتميم أجل مواهبه عند الناس وهو العلم».

وهكذا، عبر ابن باجة، في خطابه الفلسفي، عن أهم الاشكاليات المطروحة في عصره، بل عن المناخ السياسي والفلسفي والعقائدي الذي ساد حين ذاك، فكما كان ابن تومرت يمارس السياسة في الدين بهدف تغيير الواقع السياسي القائم، كان ابن باجة يمارس السياسة في الفلسفة بهدف انشاء «اقع» فكري جديد وحالم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي