سوق عكاظ من أسواق العرب القديمة التي كانوا يجتمعون فيها لقرنين من الزمان، وهو يقع في سهل منبسط بين مكة والطائف امتاز بوفرة المياه والنخيل. يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي في تسمية سوق عكاظ بهذا الاسم: «لأن العرب كانت تجتمع فيه كل سنة فيعكظ بعضهم بعضاً بالمفاخرة والتناشد».
وكانت فعاليات سوق عكاظ تُقام من أول شهر ذي القعدة ويمتد حتى الثاني من ذي الحجة. وسوق عكاظ لم يكن مجرد سوق فقط، بل كان سوقاً تجارياً عامراً وملتقى اجتماعياً مهماً ومنتدى ثقافياً ضخماً تأتيه العرب من كل حدب وصوب. لقد ساهم سوق عكاظ في إخراج العديد من القصائد الرائعة والشعراء الفحول في تاريخ الأدب العربي، إذ كان يجتمع فيه بشكل سنوي الكثيرون من الشعراء من أجل أن ينشدوا الشعر ويستعرضوا ما لديهم من مخزون ثقافي، ومن أجل أن يتفاخروا في ما بينهم ويستفيد كل منهم من تجربة الآخر. ولقد عُلّقت في سوق عكاظ المعلقات السبع الشهيرة، وذلك لشدة فصاحتها وقوة بيانها وجمالها وعذوبتها. ولقد كان النابغة الذبياني هو من يترأس سوق عكاظ في الشِعر، وفي ذلك يقول الأصمعي: «كان النابغة يُضرب له قبة حمراء بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها».
أما اليوم فقد أخذت مدينة أبو ظبي الإماراتية المكانة الثقافية التي كان يتمتع بها قديماً سوق عكاظ، وذلك عبر برنامجيها «شاعر المليون» و«أمير الشعراء»، إذ أخذ الكثيرون من شعراء القصيد الفصيح وشعراء القصيد الشعبي يتوافدون من أنحاء الوطن العربي كافة للمشاركة في هذين المحفلين الثقافيين الكبيرين. وحديثنا لهذا اليوم هو خاص ببرنامج «شاعر المليون»، إذ استطاع هذا البرنامج بكل سطوع أن يكشف مدى ذلك العطش الأدبي الذي يعيشه المواطن العربي خصوصاً الخليجي، واستطاع برنامج «شاعر المليون» بكل اقتدار أن يُعيد للشعر الشعبي لمعانه وبريقه، بعدما خفت وأصبح شبه محتكر من قبل بعض المترفين الخليجيين الذين يسوّقون قصائدهم عبر أشرطة الأغاني بأصوات المغنيين والمغنيات، أو عبر مجلات تُدار بمحسوبية ومزاجية بحتة، وجل ما يهمها الربح التجاري. لكن للأسف لم يُحسن الكثير من جمهور شاعر المليون آلية التعامل مع هذا البرنامج، فسلك معظمهم مسلكاً سلبياً بعيداً عن الاحقية والمنطق، منها: ملايين الأموال تُحرق عبر الرسائل الهاتفية من أجل التصويت لابن القبيلة، وفزعات ونعرات قبلية من أجل التصويت لابن القبيلة، وإعلانات في الصحف اليومية تدعو للفزعة من أجل التصويت لابن القبيلة، ويافطات وصور في الشوارع تحث على التصويت لابن القبيلة، وجمع تبرعات من أفراد القبيلة من أجل صرفها على ابن القبيلة، هذا كله من أجل أن يفوز ابن القبيلة في برنامج «شاعر المليون»، حتى وإن فشل ابن القبيلة في مسابقة برنامج «شاعر المليون» تستقبله القبيلة استقبال الأبطال، وتنحر من أجله سمان البقر والإبل والغنم، وتدعو على شرف وصوله لأرض الوطن سالماً مئات الضيوف، وهذا كله بعد أن فشل في تحقيق مركز متقدم في مسابقة برنامج «شاعر المليون»، فكيف لو أنه مثلاً حصل على المركز الأول في هذه المسابقة!
كم كنت أتمنى أن تتحزب وتنتصر جماهير شاعر المليون للشعر الحقيقي، لا لابن القبيلة ولا لابن البلد ولا من أجل أي محسوبيات أُخرى. إن الشعر الجميل العذب ليس له موطن ولا قبيلة، ولقد سئمنا من التعنصر في كل شيء، في الزواج وفي التعامل في ما بيننا، وفي اللبس، وفي العمل، وفي السكن، وفي الانتخابات، وفي المجالس، وفي القراءة، وفي الكتابة، وفي البيع الشراء!
حسين الراوي
[email protected]