الرجل الثاني في حياة العظماء والمشاهير (6) / ظلمه «الفاشوش»... وأنصفه «المظلوم حيا وميتا» ( 2 من 2)

قراقوش... اختلف الرواة في نسبه ووثق فيه صلاح الدين الأيوبي

u0642u0644u0639u0629 u0635u0644u0627u062d u0627u0644u062fu064au0646 u0627u0644u062au064a u0628u0646u0627u0647u0627 u0642u0631u0627u0642u0648u0634
قلعة صلاح الدين التي بناها قراقوش
تصغير
تكبير
| القاهرة من محمد عبدالفتاح |

في تاريخ كل أمة رجال عظماء قادوا النضال والكفاح في سبيل تحرير أوطانهم والوصول بها إلى بر الأمان... واستطاعوا بما لديهم من قدرات خاصة وموهبة في القيادة وشجاعة وإقدام أن يحققوا أهداف وطموحات شعوبهم، وأيضا نجوم ومشاهير قدموا الكثير وحفروا أسماءهم في ذاكرة الناس وصفحات التاريخ كل في مجاله، فنالوا كل تكريم واحترام وحفظهم التاريخ في ذاكرته.

وفي حياة كل عظيم «رجل ثان» كان معه يشد من أذره ويسانده ويدعمه ويقف بجواره في أصعب المواقف وأحرج اللحظات وكان له بمثابة الذراع اليمنى... ومن هؤلاء من اكتفى بهذا الدور وارتضى أن يظل دائما في الظل وربما ينساه التاريخ، ومنهم من أراد أن يحقق ذاته هو الآخر وأن يقفز إلى مكانة الرجل الأول ووصل بعضهم بالفعل إلى هذه المكانة، ولكنهم احتفظوا بولائهم واحترامهم لزعمائهم، وساروا على دربهم وأكملوا مسيرتهم... ومنهم من ضعف إيمانه وانساق وراء شيطانه وانقلب على زعيمه فقتله أو عزله واحتل مكانه ليحقق ذاته أو عن اقتناع منه بأنه هو السبب في كل ما تحقق من إنجازات، ومن ثم يرى نفسه الأحق باحتلال الصدارة.

«الراي» في سلسلة حلقات «الرجل الثاني في حياة العظماء والمشاهير... رجل ثان» تلقي الضوء على حياة هؤلاء الرجال وكيف كانوا سببا في ما وصل إليه بعض العظماء من مجد وشهرة بفضل مساندتهم المخلصة لهم. وكيف تحول بعضهم إلى عظماء هم أيضا وصنعوا لأنفسهم تاريخا لا يقل عن تاريخ العظماء الذين اتبعوهم في بداية حياتهم .

كما ترصد في دقة تفاصيل العلاقة التي تجمع بين الاثنين من البداية وحتى النهاية، وتستعرض مسيرة الرجل الثاني منذ ولادته، وكيف تعرف على الرجل الأول أو زعيمه، والاسباب التي دفعته للانضمام إليه ومرافقته كفاحه الطويل ، وبعض المواقف التي برز دوره فيها بوضوح.

وخلال «15» حلقة نتناول عددا من الشخصيات المؤثرة في التاريخ سواء في أوطانهم أو على المستوى العالمي... منهم الساسة والقادة العسكريون ورجال الفكر والأدب.

كذلك تعرض الحلقات لبعض قصص النجاح في الوسط الفني التي كان الرجل الثاني فيها سببا مباشرا في سطوع نجم الفنان وبلوغه قمة المجد والشهرة.



... وفي كتابه يقص ابن مماتي أن قراقوش طلب من أحد القضاة أن يهيئ له حساب القمح والشعير والفول والحمص، ووضع القاضي الحساب في صحيفة واحدة، فاختلط الأمر على قراقوش وظن أن القاضي خلط الأصناف ببعضها، وأمر بحبسه. لكن القاضي تنبه إلى أن الأمر التبس على ذكاء قراقوش، فأرسل إليه من الحبس بحساب كل صنف في صحيفة واحدة، عندها سر قراقوش وعفا عنه قائلا: «لقد تعبت يا فقيه... نقيت هذا من هذا وذا من ذا، زفوه في المدينة».

وجاءت الشرطة لقراقوش بأحد غلمانه متهما بالقتل فقال قراقوش اشنقوه، قيل له: إنه حدادك الذي ينعل لك الفرس، فنظر أمام بابه فرأى رجل قفاصات يصنع الأقفاص فقال: اشنقوا القفاص واتركوا الحداد.

هناك كثيرون ممن اعتقدوا أن قراقوش ظلم كثيرا، وحاولوا الدفاع عنه ومنهم صالح محمد الجاسر في «قراقوش المظلوم حيا وميتا»... رأوا أنه تعرض لتشويه نقله من قائمة المحاربين والمهتمين بالعمارة إلى قائمة الحمقى والمغفلين والطغاة. وأن قراقوش ظلم لأن الناس أخذوا ما نسب إليه على أنه حقيقة. ويرى بعض المستشرقين أن ابن مماتي ألف الكتاب للسخرية من ظلم قراقوش، وأيضا سخطا على دولته الأيوبية.

ويرى المفكر والأديب المصري الدكتور علي الراعي... أن قراقوش وابن مماتي من رجال الدولة، وأن ابن مماتي أراد السخرية ممن تستخدمهم تلك الدولة من الأجانب في حكم مصر، وكان قراقوش تركيا.

والواقع يؤكد أن كتاب ابن مماتي لم يحقق الغرض الذي ذكره في مقدمته، وهو أن يريح صلاح الدين الناس من قراقوش. ولم يرد أن صلاح الدين رأى الكتاب الذي على الرغم من قسوته، كان سببا في شهرة قراقوش، الذي يرمز إلى التسلط الغبي سابقا وحاليا وفي كل وقت.



وآخر أنصفه

وعلى العكس من الكتاب السابق كان قراقوش موضوع كتاب صدر حديثا للمؤلف صالح محمد الجاسر تحت عنوان: «قراقوش... المظلوم حيا وميتا».

بدأ المؤلف كتابه بمقدمة تطرق فيها إلى ما تعرضت له سيرة العديد من أعلام المسلمين من تشويه وانتقاص، وتطرق إلى ما تعرضت له شخصية بهاء الدين قراقوش من تشويه وقال: «أما بهاء الدين قراقوش، فعلى الرغم من أنه شخص شبه مغمور لا يعرف سيرته إلا من يبحث في سيرة صلاح الدين الأيوبي وأعماله، حيث يرى بصمات واضحة لقراقوش في تلك الأعمال، بأنه تعرض لتشويه جعله ينتقل من قائمة المحاربين والمهتمين بالعمارة إلى قائمة الحمقى والمغفلين وأحيانا الطغاة».

وأشار المؤلف إلى أنه على الرغم من قسوة التهم التي تعرض لها قراقوش «فإنها كانت سببا في شهرته وتداول اسمه بين الناس، ما دفع بالكثير من المؤرخين إلى التطرق إلى سيرته ونفي ما يُنسب إليه من أحكام».

وتناول المؤلف في الفصل الأول وعنوانه «بهاء الدين قراقوش... الخادم الأمين» سيرة قراقوش واتصاله بصلاح الدين الأيوبي، وبدأ الفصل برأي أو على الأصح بشهادة من صلاح الدين قالها في قراقوش حين عهد إليه ببناء سور عكا، حيث قال: «ما أرى لكفاية الأمر المهم، وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم، الهمام المحرب، النقاب المجرب، المهذب اللوذعي، المرجب الألمعي، الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي، الكافل بتذليل الجوامح، وتعديل الجوانح، وهو الثبت الذي لا يتزلزل، والطود الذي لا يتحلحل، بهاء الدين قراقوش، الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش».

ثم أشار المؤلف إلى أن المؤرخين لم يذكروا شيئا واضحا عن نشأة قراقوش، وإنما أشارت بعض المصادر إلى أنه فتى رومي أبيض ولد في بلاد آسيا الوسطى، وفيها عاش فترة طفولته، ثم في ظروف غامضة اتصل بأسد الدين شيركوه عم صلاح الدين، وبعد وفاة شيركوه في العام 564 هجرية، التحق قراقوش بخدمة صلاح الدين الأيوبي، حيث برزت مواهبه منذ أول يوم تولى فيه صلاح الدين الوزارة في مصر... وتمثل ذلك في سعي قراقوش مع الفقيه عيسى الهكاري لإقناع معارضي تولية صلاح الدين الوزارة، ثم قيام صلاح الدين بتولية قراقوش إدارة القصر الفاطمي الذي كان مصدر إزعاج لصلاح الدين، بسبب ما كان يضمه القصر من حاشية كبيرة زاد نفوذها، وأصبحت ذات دور مؤثر في إدارة البلاد، ولم تكن راضية على تعيين صلاح الدين في الوزارة، وقد استطاع قراقوش إدارة القصر بحنكة واقتدار.

كما أشار المؤلف إلى ما تولاه قراقوش بعد ذلك من أعمال، منها: تولي أمور عكا وعمارة سورها لصد هجمات الصليبيين، ثم تكليفه ببناء العديد من القلاع والحصون منها قلعة صلاح الدين بالقاهرة.

وأشار المؤلف إلى الأعمال التي قام بها قراقوش بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي سنة 589 هـجرية، حيث عمل في خدمة الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، فكان ينوب عنه حين يسافر خارج القاهرة، وحينما غدر بالعزيز بعض أمراء الأسدية بقي قراقوش الذي كان نائبه في القاهرة مواليا له، فعاد العزيز إلى الديار المصرية للقضاء على ذلك التمرد، كما أوكل إليه العزيز مهمات أخرى، حيث كان يتولى حفظ أموال الزكاة، ويتولى النظر في المظالم.

في الفصل الثاني تناول المؤلف كتاب «الفاشوش في أحكام قراقوش» للأسعد بن مماتي الذي كان معاصرا لقراقوش، وكان هذا الكتاب وما تبعه من كتب سببا في تشويه سيرة قراقوش، وتطرق المؤلف إلى أسباب تأليف هذا الكتاب الذي لم يؤد الغرض الذي ذكره ابن مماتي في مقدمته، وهو أن يريح صلاح الدين من قراقوش المسلمين، كما طرح المؤلف عدة تساؤلات حول الكتاب: هل المقصود منه قراقوش أم الدولة الأيوبية بكاملها؟ وهل رأى صلاح الدين هذا الكتاب وإذا كان قد رآه... فلماذا لم يذكر المؤرخون موقف صلاح الدين من الكتاب أو من قراقوش المقصود به؟

وخصص المؤلف الفصل الثالث والأخير من كتابه وعنوانه «قراقوش في ميزان التاريخ»... لبيان الوجه المشرق الذي أثبته المؤرخون الثقاة لقراقوش، فيورد العديد من النصوص التي وردت في عدد من كتب التراجم والتاريخ وعرفت بقراقوش.

كما استبعدت ما ينسب إليه من أحكام، ومن أبرز هذه الآراء رأي شمس الدين أحمد بن خلكان الذي أفرد لقراقوش ترجمة خاصة في كتابه «وفيات الأعيان»، تطرق فيها إلى ما ينسب لقراقوش من أحكام فقال: «والناس ينسبون إليه أحكاما عجيبة في ولايته، حتى أن الأسعد بن مماتي المقدم ذكره له كتاب لطيف سماه «الفاشوش، في أحكام قراقوش»... وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدا في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته... ما فوضـها إليه».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي