هكذا بقي للكويتيين في منفاهم بنك... حتى إشعار العودة

«الوطني» في الغزو: شيء من قصة التحرير

تصغير
تكبير
2 أغسطس 1990 ليس يوما للنسيان. وبينما تتجدد كل عام ذكرى الغزو العراقي الغاشم للكويت، يبقى دور بنك الكويت الوطني خلال فترة الغزو في ذاكرة الوطن والتاريخ، دليلا على اصرار الشعب الكويتي على المقاومة والانتصار.

قد يكون من الصعوبة تخيل امكان قيام بنك بمهامه ومسؤولياته العادية في ظل وجود احتلال كامل للبلد الذي ينتمي اليه، وفي ظل غياب الشرعية الحقيقية الرسمية للدولة. لكن البنك الوطني كسر هذه القاعدة وضرب مثالاً نادراً للتميز المصرفي والقدرة على تحدي أخطر وأصعب المواقف، من خلال مساهمته بشكل فعال في دعم ومساندة الاقتصاد الوطني الكويتي أثناء هذه الأزمة، حيث استطاع مواصلة أعماله بنجاح خلال هذه الأيام الكاحلة بفضل بعد نظر مجلس ادارته وجهود ادارته التنفيذية المتواصلة أثناء الأزمة وبعدها. وهو ما ساهم في عودة البنك الوطني بسرعة لمزاوله أعماله بشكل طبيعي بعد التحرير، وما دفع «فاينانشال تايمز» للتأكيد ان «ما قام به البنك الوطني خلال الغزو تجربة غير مسبوقة في تاريخ المصارف بالعالم».

اجتماع مجلس الإدارة يوم 2 أغسطس في لندن

وتذكر محاضر اجتماعات البنك الوطني السرّية ان رئيس مجلس الادارة المغفور له محمد عبدالمحسن الخرافي قد دعا الى اجتماع عاجل لمجلس الادارة في مقر البنك في لندن بعد ساعات قليلة من انتشار خبر الغزو يوم 2 أغسطس، بحضور نائب رئيس مجلس الادارة محمد عبد الرحمن البحر، وكل من الأعضاء ناصر مساعد الساير، وحمد عبد العزيز الصقر، ويعقوب يوسف الحمد، الذين كانوا لحسن الطالع متواجدين في لندن.

وفي الاجتماع، سأل مجلس الادارة الرئيس التنفيذي للبنك ابراهيم دبدوب عما يمكن فعله في هذه الحالة وهل هناك سابقة تاريخية لتلك الحالة في تاريخ المصارف في العالم. ورغم ان هذه الظروف الاستثنائية، كان موقف دبدوب واضحاً، مؤكدا ان «أمام البنك خيارين لا ثالث لهما، وهو إما ان يغلق أبوابه ونجلس في بيوتنا في انتظار ما تسفر عنه الأيام المقبلة، أو ان نقرر الاستمرار والمقاومة وهو طريق صعب ومحفوف بالمخاطر والصعوبات لانه في ظل الاحتلال قد لا نجد من يعترف بنا على نطاق البنوك العالمية. لكننا نريد ان نثبت ان الكويت هي دولة مؤسسات وليست أفرادا. وسنقاوم حتى النهاية حتى يعود الحق لأهله وتعود سيادة الكويت للكويت».

وكان ان استمع مجلس ادارة البنك لنصيحة دبدوب، واتخذوا قرارهم التاريخي باستمرار العمل في العمليات المصرفية والمقاومة حتى النهاية والالتزام بكل ما على البنك وما له من حقوق لدى الغير، على ان تتم ادارة البنك من الخارج. وفي سبيل ذلك، قامت ادارة البنك التنفيذية بالتنسيق مع البنوك العالمية لتسهيل القيام بالعمليات المصرفية لخدمة عملاء البنك داخل الكويت وخارجها.

وأثناء فترة الغزو، حرص البنك على ان تتم أعماله بشكل منتظم، وصدر بذلك الكثير من القرارات التنظيمية للفروع الداخلية. كما استمر انعقاد مجلس الادارة بشكل دائم في لندن لضمان استمرار العمل والتنسيق بين الادارة العليا للبنك من جهة وبين فروعه وبنك الكويت المركزي من جهة أخرى.

تهريب سجلات «الوطني» إلى لندن

قلة من الكويتيين يعرفون تفاصيل تلك المهمة المستحيلة التي انجزت في أغسطس 1990، حين خلع «جنود» بنك الكويت الوطني بقيادة عصام جاسم الصقر ثياب الوظيفة الانيقة، وخاضوا غمار أخطر مهمة لتهريب السجلات الكاملة للبنك على أشرطة ممغنطة الى خارج الكويت. كانت المهمة مزدوجة، فمن جهة كان لا بد من ابعاد المعلومات عن انظار المحتلين، ومن جهة أخرى، كان البنك بأمس الحاجة لهذه السجلات ليتمكن من مواصلة نشاطه المصرفي كالمعتاد من فرعه في لندن. كان ذلك التزاماً قلما تختبره البنوك، ان يحفظ الموظفون ما لديهم من أموال وأسرار ائتمنهم عليها العملاء والمودعون والمساهمون في غمرة الفوضى المطلقة لبلد واقع تحت الاحتلال. وكان الثمن الذي دفعه العديد من الموظفين الذين تعرضوا للأسر، ومن بينهم الصقر، كبيراً وضاغطاً.

كما اتخذت في ذلك الوقت اجراءات وممارسات لوجيستية وعملية معقدة لاتمام المهمة، وتم تحت جنح الظلام اخفاء الشرائط الممغنطة في مقاعد السيارات وتهريبها الى الخارج عن طريق البر. وخلال فترة وجيزة تمت استعادة هذه المعلومات عن نظام البنك على كمبيوتر خاص في فرع البنك في لندن. وما هي الا أيام حتى بدأ البنك في العمل والوفاء بالتزاماته وادارة أمواله وأصوله. وفي مرحلة لاحقة، بدأ البنك جمع المعلومات بشكل كلي واعادة تأسيس السجلات الخاصة بالمعاملات مع البنوك الأخرى (الانتربنك) للنظام المصرفي ككل.

دور تاريخي لمحافظ بنك إنكلترا السابق

وجدير بالذكر ان عددا كبيرا من المؤسسات والبنوك العالمية قد تخلت عن البنك الوطني خلال أزمة الغزو رغم ان ودائع البنك كانت متوافرة لديها خلال تلك الفترة. الا ان صلابة البنك ومتانته واصرار ادارته على الكفاح والمقاومة تمكنت من التغلب على هذه الظروف. وكان من أكثر من وقف الى جانب البنك، هو محافظ بنك انكلترا السابق ايدي جورج (الذي توفي العام الماضي) الذي دعم وساند البنك خلال أول أيام الغزو في لندن.

هكذا يتذكر بنك الكويت الوطني من خلال وثائقه تلك الوقائع التاريخية والأحداث التي شارك فيها البنك كعضو فاعل له بصمته الواضحة على الاقتصاد الكويتي في كل مراحله التاريخية.

تجدر الاشارة الى ان بنك الكويت الوطني يحتفظ في أرشيفه بمجموعة قيّمة من الوثائق والسجلات التي تؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الكويت الاقتصادي والمالي منذ العام 1952، كما تؤرخ في الوقت ذاته لكبار رجالات الكويت الذين قامت على أكتافهم اللبنات الأولى لنهضة الكويت الحديثة.



10 ملايين استرليني صرفها البنك

خلال أسبوعين من الغزو للكويتيين


 

وتكشف سجلات البنك الوطني السرّية عن قرار تاريخي آخر لم يقم به أي بنك في العالم، والقاضي بصرف البنك مبلغ 500 جنيه استرليني يومياً لكل كويتي يأتي الى البنك ويقول ان له حساباً، وحتى من دون ان يتثبت ان له رصيداً في البنك. وقد قام البنك خلال أسبوعين فقط من الغزو بصرف مبالغ وصلت الى نحو 10 ملايين جنيه استرليني.

وكان رأي رئيس وأعضاء المجلس هو ان الكويت اذا لم تعد لأهلها فلا قيمة لهذه الأموال على الاطلاق، وان واجبنا كبنك وطني وككويتيين في المقام الأول هو ان نقف بجانب كل كويتي وان نساعد هذه الأسر والعائلات الكويتية التي وجدت نفسها في مأزق بلا مأوى، ولا يوجد لها أي مصدر أو دخل مادي تعتمد عليه. وقد كان لهذا الموقف من البنك الوطني دور كبير في الوقوف معنوياً الى جانب أهل الكويت خلال هذه المحنة ومساعدتهم على قضاء حوائجهم خلال هذه الفترة الحرجة. وما زال الكثير من العملاء يتذكرون هذه الأيام حين كان موظفو البنك يصلون الليل بالنهار في فرع البنك بلندن من أجل خدمة أهل الكويت.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي