كان عمر احمد خمسة اعوام عندما وقف مع اسرته على شرفة البناية ليشاهدوا ارتال الجيش العراقي ترحل من الكويت قبل عشرين عاما الى غير رجعة، ومازال يذكر والده وهو يقول له: يا بني لقد عشنا اياما عصيبة وقد منّ الله تعالى علينا بالنصر على اعدائنا، أبشر يا بني فلنسع لتدارك ما فاتنا... ولبناء الكويت من جديد افضل مما كانت عليه لتصبح واحة امان ومثالا يحتذى به في العالم.
مرت السنوات وظل احمد يتذكر كلام ابيه ويعيش في الامل الذي ينتظره اذا كبر وخرج الى الحياة ليعمل، ولكن ذلك الامل لما يتحقق بعد!!
شاهد احمد ابناء بلده - وهم ليسوا من بقايا الاحتلال العراقي - يتسابقون على اقتناص كل ما يقع تحت ايديهم من خيرات الكويت ويتقاتلون عليها وكأنها غنائم حرب، تنافسوا على مناقصات اعادة الاعمار والتي بلغت المليارات من الدنانير ووزعوها بينهم، تنافسوا على المناصب الحكومية ليستفيدوا منها ويسخروها لخدمة اهدافهم وتنفيع اقربائهم، تنافسوا على انتخابات مجلس الامة واستباحوا كل شيء من اجلها، وقسموا البلد الى قبائل وطوائف وعشائر وفخوذ وغيرها، كل ذلك من اجل الحصول على جزء من تلك الكعكة، وضربوا للناس امثلة من الانحطاط تحت قبة المجلس وجاؤوا باقتراحات غريبة من اجل تبديد اموال الشعب.
التفت احمد الى التعليم فوجده لايزال يعرج في جامعة يتيمة وهيئة عامة مسكينة لا يدريان من يرضيان ام من يرفضان، التفت الى الصحة فوجد ان السبعة مستشفيات من عصر الثمانينات هي سلاحنا الوحيد ضد المرض، بينما ننفق مليارات الدولارات على السياحة - معذرة بل العلاج - في الخارج، التفت الى الطرقات فوجد بأن الخرائب - اقصد الطرق - التي بنيت في السبعينات مازالت تئن تحت وطأة مليون ونصف المليون سيارة تدوس عليها كل يوم، حتى الكهرباء التي كنا نتفاخر بقوتها قد رضخت تحت ضربات التخبط الى ان انطفأت، عندما تعلقت آمال احمد بالهرب الى الخارج ليتخلص من همومه وجد امامه شركة طيران وحيدة تحكي اسطورة البنت التي جنى عليها قومها ومزقوها وهي لاتزال صامدة، والكل ينتظر سقوطها ليجهز عليها باسم الخصخصة وليتناول ما تبقى من لحمها وعظامها.
شعارات كبيرة تُرفع في كل يوم: خطة للتنمية - رؤية للكويت عام 2030... الخ الخ، ولكن احمد لم يشاهد على ارض الواقع الا آلاف العمالة السائبة وآلاف البدون الذين ينتظرون البت في هوياتهم، وآلاف العقود الوهمية للعمالة ومئات الشركات الورقية التي تتكاثر كالمشروم دون ان تضيف للاقتصاد شيئا، وآلاف الموظفين الذين يمثلون البطالة المقنعة، ومطارات مزدحمة بالمسافرين للعطل طوال العام، تفكر احمد في حال بلده وذرف دمعة حزينة وقال: هل يحق لنا ان نفرح في الذكرى العشرين لاندحار جنود الاحتلال من بلادنا؟!
وداعاً للرؤيةكم هو محزن ان نودع جريدة الرؤية بعدما قرر مجلس ادارتها ايقافها، لقد استطاعت جريدة الرؤية خلال اقل من سنتين ونصف السنة من عمرها ان تتبوأ مكانتها بين الصحف الكويتية العريقة وان تكسب شريحة واسعة من المحبين بسبب سياستها المتوازنة وتنوعها، ولكن التنافس المحموم بين الوسائل الاعلامية المطبوعة في الكويت وضيق حجم السوق الاعلامي في الكويت جعل البقاء ليس للأقوى فقط ولكن للأغنى.
نشكر الاخوة الأفاضل شريدة المعوشرجي وسعود السبيعي وكل من ساهم في تطوير الجريدة ونتمنى على الصحف القائمة الاستفادة من الاقلام المتميزة التي استقطبتها الرؤية ومن المحررين والمراسلين الذين عملوا معها بجد.
د. وائل الحساوي
[email protected]