كان ظهور الفضائيات انقلاباً إعلامياً بكل المقاييس، وقد صاحب ظهورها بروز ظاهرة الدعاة الذين أصبح طريق دعوتهم عبر الشاشات، واعتبر الكثيرون أن ذلك متنفساً مهمّاً في ظل حالة التضييق على الدعوة الإسلامية، وقد نجح كثيرون من الدعاة في دعوتهم عبر الفضائيات.
وهنا لي وقفة مع ظاهرة صاحبت بعض دعاة الفضائيات من تغيير في مضمون الدعوة، وتغيير في حال أولئك الدعاة بسبب حدوث تغير اقتصادي وثراء لافت لبعض الدعاة نتيجة دخلهم من الفضائيات.
الحقيقة أن الدعوة إلى الله عمل ورسالة نبيلة، فهي رسالة الأنبياء والرسل، ولكن عندما يختلط حب الدنيا وزينتها بالقيام بالرسالة يحدث التغيير في شكل ومضمون الدعوة والدعاة، وحب الدنيا ملازم لكل إنسان، ولكن الداعية المفروض أنه قدوة مطلوب منه مجاهدة حب الدنيا، وصدق السلف الصالح عندما قالوا لو لم يكن لنا ذنوب نخاف على أنفسنا منها إلا حب الدنيا لخشينا على أنفسنا منها إن الله عز وجل يقول «تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة».
وأذكر في نهاية السبعينات وأنا شاب صغير في مقتبل العمر، كيف كنا نحن الشباب الصغير ننظر إلى الدعاة بحب وتقدير واحترام، وكان الدعاة وقتها منارات شامخة تدعو وتجاهد بإخلاص من أجل الدعوة إلى الله، ويحتسبون الدفاع عن دين الله بكل ما أوتوا من قوة وجهد، فكان للدعاة مهابة من كل أطياف أعداء الدعوة، وانتشرت الدعوة الإسلامية وظهر ما سمي بالصحوة الإسلامية، وظهر جيل إسلامي مخلص لله لا يعرف غير السعي إلى رضا الله بكل ما يستطيع. ثم مضت الأعوام وتغيرت أشياء كثيرة في شتى النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وشمل التغيير أيضاً التيار الإسلامي كله لأسباب كثيرة ليس المقال مجال سردها. لكن أخطر ما حدث هو التغيير الذي حدث في بعض من يتصدرون للدعوة، ما كان له أثر على الدعوة الإسلامية، فقد انقلبت الدعوة عند البعض إلى سبيل للتجارة، وجمع الأموال، وتكوين العلاقات للبيزنس، وسقف الخطاب الدعوي أصبح مرتهناً بالمصلحة والمطلوب في السوق الدينية.
أنا لا أعترض على حق كل إنسان في الثراء الحلال، ولا في مسايرة أنماط العصر الاقتصادية، وأيضاً لا أفتش في السرائر ولكني أقول وأحكي ما يحدث في الظاهر من بعض السلبيات التي تركت دخاناً على وجه الدعوة الإسلامية الأبيض المضيء وذلك من الصراع على الفضائيات، وتغيير في نمط الحياة الترفيهي لا يتناسب مع مكانة الدعاة.
ربما يقول قائل: هل تحرمون الحلال؟ أقول: لا، لا، مطلقاً... من حق الدعاة أن يكون لهم دخل جيد، بل وجيد جداً يكفيهم ويغنيهم، ومظهر حسن، واستقرار أسري، ولكن أيضاً الداعية له وضع خاص فينبغي أن يكون صادقاً مخلصاً في رسالته، وقدوة في تصرفاته وقريبا من الناس لا متعالٍ ولا مبتعد عنهم بأي شكل من الأشكال.
اللافت أن بعضاً منهم كان يتحدث قديماً عن الزهد والآن اختفى الحديث! هل عندما نكون فقراء نتكلم عن الزهد، هذا ليس زهداً مطلقاً بل الزهد هو زهد من يملك، لا من لا يملك.
وقد طرأ أيضاً تغيير على مضمون الدعوة، وهذا هو الأهم الأخطر ولكنه له علاقة متلازمة بما سبق، فمن أجل الحرص على الدنيا يتم تغيير مضمون الدعوة، ولم يعد يسمع الناس مشاركة طائفة من هؤلاء الدعاة للناس في همومهم وتصديهم لقضايا الأمة حتى تندر عليهم العلمانيون وقالوا إن العلمانية هي الحل.
وهذا التغير والحرص على الدنيا لا يقتصر على بعض من يتصدرون للدعوة فقط ولكنه طال أيضاً الكثير ممن هم على ساحة العمل الإسلامي، وموجود أكثر عند من يتصدرون للعمل العام ممن يسمون نخبة ومثقفين في مختلف مواقعهم. نعم، إن البعض منهم سياسيون، وكتاب صحافيون يبيعون ما يعلنون من مبادئ ويتحولون بمواقفهم بحسب المصدر المالي والغنيمة، كل فترة مع دولة وممول مختلف، بعضهم تجدهم في الصباح إسلاميين، وفي المساء ليبراليين، وهكذا، ورغم أن هؤلاء مصيبتهم كبيرة إلا أنهم غير منظورين كالدعاة. ولكن الحمد لله ما زالت توجد فئة كبيرة جداً سواء من المعروفين أو غير المعروفين من الدعاة والمثقفين مخلصين ثابتين على مبادئهم محتسبين لله.
وتبقى الإشارة إلى أحدث الأخبار في ذلك الصدد... فقد اتفق داعية مع إحدى القنوات على تسجيل أربع حلقات في الشهر مقابل 160 ألف جنيه، يعني في الساعة بأربعين ألف جنيه، بمعدل الدقيقة بـ 666 جنيهاً، وهذه الدقيقة تعادل راتب شهر لمهندس أو طبيب محترم!
وأخيراً، لقد ذكرتني هذه الظاهرة بموقف وكلمات عظيمة للأستاذ الشهيد سيد قطب (نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا والله حسيبه) عندما وضع الظالمون حبل المشنقة على رقبة سيد قطب، رحمه الله، جاءه رجل يرتدي الجبة والقفطان وقال للأستاذ سيد تشهد، فقال له هل جئت لتكمل المسرحية... نحن يا أخي نعدم من أجل لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله.
نعم، صدق سيد قطب، رحمه الله، وإن كان ليس شرطاً أن يُسجن ويُعدم الدعاة وأصحاب المبادئ من أجل لا إله إلا الله، ولكن شرط مهم جداً جداً ألا يأكل من يتصدرون للدعوة الخبز بلا إله إلا الله.
ممدوح اسماعيل
محامٍ وكاتب
[email protected]