«الراي» تكسب الرهان... والسفيرة جونز تناقض نفسها!

السجل الأميركي حافل بسجن الصحافيين بسبب «ما يمتنعون عن قوله»

تصغير
تكبير
|كتب عبدالعليم الحجار|

اخفقت السفيرة الأميركية المعتمدة لدى الكويت ديبورا جونز في كسب الرهان الذي رفعت رايته امام «الراي» في تصريحها (نشر أمس)، عندما اعربت عن «استعدادها لدفع 5 الاف دولار في حال اقدام اميركا على زج اي صحافي في السجن».


ومرد الاخفاق إلى ان التاريخ الاميركي القديم والحديث حافل بالصحافيين الاميركيين الذين اودعوا السجون ليس «بسبب ما يقولونه»، بل بسبب «مايمتنعون عن قوله»، واستنادا إلى ذلك يجعل من «الراي» كاسبة للرهان «مئة في المئة».

وفي الحقيقة فإن ما قصدته السفيرة جونز تحديدا عندما رفعت «راية التحدي» يتعلق بما إذا كانت بلادها قد أقدمت (في أي وقت على مدار تاريخها) على حبس أو احتجاز أوتقييد حرية أي صحافي وزجه في السجن «على خلفية رأي سياسي أدلى به»، مدافعة بذلك عن موقف الولايات المتحدة المتناقض الذي انتقد الكويت على خلفية مسألة احتجاز الكاتب محمد الجاسم، في حين لم تنتقد شبكة الـ «سي ان ان» الاخبارية الأميركية عندما طردت احدى موظفاتها لمجرد امتداحها المرجع الديني اللبناني الراحل السيد محمد حسين فضل الله.

بداية، وقبل كل شيء، لعل السفيرة جونز مازالت تتذكر أن العام 2005 شهد واحدة من أشهر قضايا حبس الصحافيين الأميركيين وذلك عندما تم حبس مراسلة صحيفة نيويورك تايمز الصحافية «جوديث ميللر» بسبب رفضها الإفصاح عن مصادرها السرية التي اتضح آنذاك أنها كانت لها صلة بتسريب هوية عميلة الـ«سي آي اي» فاليري بالم. وكانت التحقيقات المبدئية قد كشفت عن أن مسؤولين في إدارة الرئيس جورج بوش هم الذين قاموا عن عمد بتسريب معلومات كشفت عن هوية العميلة السرية بالم انتقاما من زوجها السفير جوزيف ويلسون بسبب انتقاده للمبالغة الشديدة في المعلومات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل العراقية والتي على أساسها تم اتخاذ قرار شن الحرب. ولم يتم الافراج عن ميللر إلا بعد مرور 85 يوما، وذلك بعد أن كشفت عن أن ذلك المصدر كان ليويس «سكوتر» ليبي الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس مكتب ديك تشيني.

لكن أقدم «صيد» ظهر من خلال التنقيب في شبكة الانترنت كان قضية مشهورة جدا في التاريخ الأميركي المتعلق بحرية الصحافة، ويعود تاريخ تلك القضية إلى فترة ماقبل الاستقلال الأميركي وتحديدا في العام 1734، وهي القضية التي كان المتهم فيها الناشر الصحافي الأميركي (من أصل ألماني) جون بيتر زينغر (John Peter Zenger) الذي قضت محكمة نيويوركية آنذاك بسجنه بعد أن نشر في دوريته الأسبوعية «نيويورك ويكلي جورنال» سلسلة مقالات سياسية شنت هجوما حادا فضح ما وصفته بـ«فساد» حاكم ولاية نيويورك الذي كان مواليا للامبراطورية البريطانية المستعمرة لأميركا آنذاك. لكن هناك من يرفضون اعتبار تلك الحالة بالذات «وصمة» في سجل حرية الصحافة الأميركية على اعتبار أنها كانت قبل أن تحصل الدولة على استقلالها من الاستعمار البريطاني.

وفي العام 1847 (أي بعد استقلال أميركا وبعد وضع دستورها) حصل أن أقدم أعضاء لجنة لتقصي الحقائق تابعة لمجلس الشيوخ الأميركي على احتجاز مراسل صحيفة «نيويورك هيرالد» جون نوجينت (John Nugent) في حبس انفرادي خاص في داخل مبنى الكابيتول. وكانت تلك اللجنة تسعى إلى تحديد مصدر تسريب نص معاهدة «غودالوب-هيدالغو» التي أدت لاحقا إلى انهاء الحرب المكسيكية، وهي المعاهدة التي كان المجلس قد أقرها فعليا لكنها كانت لاتزال تحت طائلة السرية ثم حصل عليها ذلك المراسل بطريقة ما ونشر أهم بنودها في الصحيفة المذكورة.والمدهش في الأمر أن فترة احتجاز «نوجينت» داخل الكابيتول استمرت شهرا كاملا دون أن يكون هناك حكم من محكمة ودون أن يسمح له بالاتصال بالعالم الخارجي. وطوال فترة الاعتقال القسري حاول أعضاء اللجنة دون جدوى إرغام المراسل على أن يفصح عن المصدر الذي سرب اليه نص المعاهدة. وفي نهاية المطاف، اضطر محتجزو نوجينت إلى اطلاق سراحه، واعترف مجلس الشيوخ لاحقا باحتجازه وذكر أنه تم الافراج عنه بعد أن تدهورت حالته الصحية.

وفي العام 1984 انتهى المطاف بالكاتب الصحافي الأميركي ريتشارد هارغرافيز (Richard Hargraves) في السجن بقرار من المحكمة وذلك في اطار قضية تشهير كانت مرفوعة ضده بسبب مقالة صحافية كتبها في صحيفة «ذا بيلفيل نيوز ديموكرات» في العام1981 ضد رئيس مجلس أوصياء مقاطعة سانت كلير التابعة لولاية ايلينوي، وهو المجلس الذي يعد بمثابة حكومة المقاطعة. واستنادا إلى معلومات قال انها استقاها من مصدر حكومي، اتهم هارغرافيز في مقالته ذلك المسؤول السياسي بـ«الكذب» على ناخبيه وممارسة التحايل والتربح من منصبه. وفي مرحلة استئناف القضية، طلبت المحكمة من «هارغرافيز» أن يفصح عن اسم ذلك المصدر الحكومي الذي استقى منه معلوماته لكنه رفض فأمرت المحكمة بسجنه إلى أن يفصح عن ذلك المصدر. ولم ينقذ «هارغرافيز» إلا أن تقدم ذلك المصدر طواعية في وقت لاحق وأدلى بشهادته أمام المحكمة.

وفي العام 1991 أمر قاضي إحدى محاكم ولاية ساوث كارولينا بحبس 4 مراسلين صحافيين دفعة واحدة لمدة ساعات عدة في سجن تابع لقاعة المحكمة، وذلك بعد أن امتنعوا عن الادلاء بشهاداتهم في القضية التي حوكم فيها سيناتور الولاية آنذاك جيه ام «باد» لونغ بتهم تتعلق بالفساد وتلقي رشاوى. وأولئك الصحافيون الأربعة كانوا «سيد غولدين» (Sid Gaulden) و«شويلر كروبف» (Schuyler Kropf) من صحيفة «ذا بوست آند انكوايرر» والصحافية سيندي سكوب (Cindi Scoppe) من صحيفة «ذا ستيت» والصحافي أندرو شين (Andrew Shain) من صحيفة «ذا صن نيوز».

وتكرر السيناريو ذاته في العام 1949 عندما عوقبت الصحافية ليزا أبراهام بالسجن لمدة 22 يوما لأنها امتنعت عن الادلاء بالشهادة أمام هيئة محلفين في شأن مقابلة صحافية كانت أجرتها في وقت سابق مع مسؤول حكومي كان يواجه آنذاك تهما تتعلق بالفساد واساءة استغلال سلطاته. وكانت تلك الصحافية تعمل لحساب صحيفة «ذا تريبيون كرونيكل» عندما أجرت مقابلة صحافية حصرية مع ذلك المسؤول الذي كان يدعى جيمس فيورينزو (James P. Fiorenzo)، ثم كتبت لاحقا مقالة انتقدت فيها مدى التناقض الشديد بين ما مايصرح به لوسائل الاعلام وبين ما كان قد أسرّ به لها خلال جلستها معه، وهو ما أرادت المحكمة معرفته.

وقد يقول قائل إن معظم تلك الحالات تشير إلى أن أولئك الصحافيين المعنيين لم يسجنوا في المقام الأول بسبب ماكتبوه أو قالوه بل بسبب رفضهم الافصاح عن معلومات لديهم أو عن مصادر تلك المعلومات. لكن الرد على ذلك ببساطة هو إنه إذا كان هناك صحافيون في بلادنا يسجنون أحيانا بسبب «مايقولونه»، فإن الفرق الوحيد بينهم وبين نظرائهم الأميركيين الذين أشرنا اليهم هنا هو أن الأميركيين سجنوا بسبب «مايمتنعون عن قوله».

وعود على بدء، فإن قائمة الصحافيين الأميركيين الذين تم الزج بهم في السجن بسبب «ما امتنعوا عن قوله» هي قائمة طويلة. وإذا بدأنا من الحالات الأحدث إلى الحالات الأقدم عهدا، فلعل سعادة السفيرة جونز تتذكر قضية المدون والصحافي الأميركي الحر «جوشوا وولف» الذي حكم عليه بالسجن في أغسطس 2006، لا لشيء سوى لأنه رفض تسليم المحكمة شريط فيديو خاص به كان قد قام بتصويره في العام 2005 ومن المفترض أنه يظهر في ذلك الشريط أحد المتهمين خلال قيامه بإضرام النار في سيارة تابعة للشرطة. وقد قضى وولف في السجن مدة قياسية بلغت 226 يوما بسبب تمسكه بحقه في التمتع بالحماية التي يوفرها له «التعديل الأول» (The First Amendment) للدستور الأميركي.

ومع اختلاف التفاصيل، فإن المصير ذاته كان من نصيب صحافيين واعلاميين أميركيين آخرين لأسباب مشابهة وكان من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: في العام 2004 مراسل محطة WJAR-TV التلفزيونية جيم تاريكاني « Jim Taricani « (حكم عليه بالاقامة الجبرية في منزله لمدة 6 أشهر)، وفي العام 1996 الصحافي ديفيد كيدويل (David Kidwell) من صحيفة ميامي هيرالد، وفي العام 1993 الصحافي تيم روشيه من صحيفة «ستيوارت نيوز»، وفي العام 1990 المراسل التلفزيوني برايان كاريم، وفي العام 1987 مراسلة صحيفة لوس انجليس تايمز «روكسانا كوبتمان» (Roxana Kopetman) مع مصور الصحيفة روبيرتو سانتياغو، وفي العام ذاته مراسل صحيفة نيويورك تايمز مايرون فاربر (Myron Farber)، وتستمر القائمة الطويلة وصولا إلى العام 1735 الذي شهد حالة الناشر الصحافي جون بيتر زينغر، وهي الحالة التي أشرنا اليها آنفا في بداية استعراضنا لتاريخ سجن الصحافيين الأميركيين.

والسؤال المهم الآن هو: هل ترى سعادة السفيرة جونز أن «الراي» قد كسبت الرهان؟

سؤال ينتظر إجابة.





السفيرة الأميركية ترد

على ما نشرته «الراي»




أرسلت السفيرة الأميركية ديبورا جونز أمس بكتاب توضيحي إلى «الراي» تعقيباً على تصريح «رهان الـ 5 آلاف دولار» الذي كانت قد أدلت به لـ «الراي» خلال مشاركتها في الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي.

وجاء في توضيح السفيرة ما نصه: «ما قلته هو انني سأدفع 5 آلاف دولار لأول أميركي (سواء كان صحافياً أو غير ذلك) يتم الزج به في السجن بسبب تعبيره عن اختلاف سياسي مع الحكومة أو بسبب انتقاد الرئيس أو القيادة السياسية - ولقد حاولت «الراي» المقارنة بين طرد محطة «سي ان ان» لاوكتافيا نصر بسبب اشادتها بالسيد فضل الله وبين موقفنا ازاء محمد الجاسم».





... و«الراي» تعيد نشر

النص الحرفي لما قالته السفيرة




في المقابل تعيد «الراي» نشر النص الحرفي لما أتى على لسان السفيرة جونز (حسب ما هو مسجل صوتياً):

• «الراي»: نريد ان نسألك عن مسألة حقوق الإنسان، لقد انتقدتم الكويت على خلفية سجن (الكاتب الصحافي) محمد الجاسم.

- جونز: أنا لم أنتقد ذلك.

• «الراي»: لكن الحكومة الأميركية فعلت ذلك، بينما تم طرد موظفة من محطة «سي ان ان» لمجرد انها كتبت جملة (إشادة) واحدة عن السيد محمد حسين فضل الله، فلماذا هذا التناقض؟

- جونز: لا أعتقد انهم سيأخذون (تلك الموظفة) إلى السجن، وعليكم ان تسألوا محطة «سي ان ان» عن سياستهم إنهم ليسوا جهة حكومية.

• «الراي»: لكن كلتا الحالتين تتعلق بحقوق الإنسان؟

- جونز: ان محطة «سي ان ان» باعتبارها مؤسسة خاصة لديها كل الحق كي توظف أو تطرد أي شخص على خلفية مدى التزامه بسياستها الخاصة... وفي المرة المقبلة التي تقدم فيها الحكومة الأميركية على وضع أي شخص في السجن بسبب تعبيره عن رأي سياسي، فسيكون من حقك وقتها ان تسأليني مثل هذا السؤال. واذا حصل ذلك يوماً، فسأدفع لك 5 آلاف دولار.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي