نهاية العام ليست تقويماً... بل جلسة علاج جماعية مع الذات. في كل نهاية عام، ينشغل الناس بكتابة الأهداف، وتنظيف البيوت، وشراء المفكرات الجديدة، وكأنهم يحاولون محو ما مضى بلمسة ديكورٍ موسمية. لكنّ الحقيقة النفسية أعمق من ذلك بكثير، فالنهاية في جوهرها ليست حدثاً خارجياً، بل عملية إدراك داخلي يعيشها العقل والجسد كنوعٍ من المراجعة الشاملة للذات.
ومن وجهة نظري كدكتورة ومعالجة نفسية، نهاية العام تشبه جلسة علاج جماعية مع النفس، لحظة مواجهة صادقة بين ما كنا نظنه نحن، وما كنا عليه فعلاً. هذه المرحلة تُحرّك فينا واحدة من أقدم الغرائز النفسية التي تحدث عنها كارل يونغ، وهي «غريزة التوازن»، فالنفس بطبيعتها تسعى لتصحيح اختلالاتها عبر التأمل والمراجعة، تماماً كما يُعيد الجسد توازنه بعد المرض.
في علم النفس المعرفي يُعتبر الزمن أداة تقييم ذاتي، ولهذا يربط الدماغ بين نهاية العام وبين فكرة التقييم الشامل للذات، حيث يُراجع الفرد أفكاره وقراراته وعلاقاته ليحدد ما يجب أن يستمر وما يجب أن يتوقف. لكن البعض يقيّم نفسه بزاوية قاسية، يفتح دفتر الأيام ليعدّ الخسائر فقط: ما أنجز، ما فاته، من خذله، ومن غادره.
وهذه المقاربة، بحسب دراسات جامعة شيكاغو عام 2021، تزيد الشعور بعدم الرضا بنسبة 46 % لأنها تُغذّي منطقة اللوزة الدماغية المسؤولة عن استحضار الذكريات المؤلمة بدلاً من معالجتها. في المقابل، الأشخاص الذين يمارسون ما يُعرف بـ«إعادة بناء القصة الشخصية» يعيدون صياغة تجاربهم بطريقة أكثر رحمة واتزاناً، ما يخفض معدلات القلق ويزيد شعورهم بالمعنى. فبدلاً من أن يقول الشخص «فشلت بزواجي»، يمكنه أن يقول «تعلمت من تجربة الزواج كيف أحدد احتياجاتي وحدودي»، وبدلاً من «خسرت أصدقائي»، يقول «عرفت من يستحق البقاء في حياتي».
التغيير في الجملة بسيط، لكنه تغيّر في الطاقة والمعنى. أتذكر إحدى قصص العيادة النفسية إحداهن التي كانت تكتب كل نهاية سنة قائمة خيباتها وتبكي وهي تقرأها، فطلبت منها أن تكتب بدلاً منها قائمة الوعي، تسجل فيها كل المواقف التي جعلتها تفهم نفسها أكثر حتى وإن كانت مؤلمة.
بعد شهر أخبرتني أن نظرتها للحياة تغيّرت بالكامل، لم تعد ترى الألم كعقوبة بل كدرس. وهنا تتجلّى النقطة الفارقة في العلاج النفسي: الوعي لا يُلغي الألم لكنه يُحوّله إلى معنى. فالدراسات الحديثة من جامعة هارفارد حول العقلية النامية تؤكد أن الأشخاص الذين يعيدون تفسير التجارب الصعبة كفرص للتعلم يحققون نمواً ذاتياً أكبر بنسبة 60 % مقارنة بمن يغرقون في جلد الذات.
لا أرى في كتابة الأهداف عادة تنظيمية فحسب، بل طقساً علاجياً إن أُنجز بوعي. فعندما نكتب «أريد أن أكون أكثر هدوءاً» نحن في الواقع نُعيد برمجة أدمغتنا على التركيز على السلوك الهادئ، وعندما نمزق ورقة كتبنا عليها «ما أريد أن أتركه» فإن الرمزية تُحفّز الجهاز العصبي على الشعور بالتحرر.
الدماغ لا يفرّق بين الرمز والواقع، لذلك تُستخدم هذه الطقوس في العلاج السلوكي الجدلي كوسيلة فعالة لتفريغ المشاعر. حين نحرق ورقة كتبنا فيها الألم، لا نحرق الحبر بل نحرق أثراً نفسياً عميقاً. إنّها جلسة تصالح رمزية مع الذات، تشبه الغفران بعد علاقة مؤذية أو فشلٍ موجع. وهنا يتحول ديسمبر من شهر مزدحم بالمشتريات إلى شهر مزدحم بالمغفرة.
من المهم أيضاً مراجعة العلاقات في نهاية العام. فالكثيرون يواصلون علاقات لم تعد صالحة للنمو، مدفوعين بالخوف من الفقد أو الشعور بالذنب. في العلاج النفسي يُسمى هذا النمط بالتعلق المتناقض، حيث يعيش الفرد بين رغبة في القرب وخوف من الهجر. ودراسة من جامعة أكسفورد عام 2023 بيّنت أنّ مَن يقومون بمراجعة سنوية لعلاقاتهم ويضعون حدوداً صحية تقل لديهم مؤشرات القلق الاجتماعي بنسبة 50 %. وهنا أقول إن النضج النفسي لا يعني أن تبقى بل أن تختار. فبعض العلاقات يروينا، والآخر يُنهكنا، ومهمتنا أن نميّز بين الاثنين.
علم الأعصاب الحديث يصف نهاية العام بمرحلة الإغلاق المعرفي، إذ يسعى الدماغ لإيجاد نهاية منطقية للتجارب قبل الانتقال إلى فصل جديد. يقل نشاط اللوزة الدماغية المسؤولة عن الخوف ويزداد نشاط القشرة الجبهية الأمامية المسؤولة عن التحليل، فنصبح أكثر هدوءاً واستعداداً للتأمل واتخاذ القرار. ولهذا نشعر في ديسمبر برغبة في الترتيب والتنظيف والتسامح. إنها ليست صدفة بل آلية عصبية طبيعية لإعادة ترتيب الفوضى الداخلية قبل بداية جديدة.
ومن وجهة نظري كدكتورة، لا أؤمن بفكرة «عام جديد... حياة جديدة» بالشكل التجاري السطحي. فالحياة لا تتغير بتبدل التاريخ، بل بتبدل الوعي. من لم يتصالح مع نفسه سيحمل معاركه نفسها إلى كل عام جديد. ولذلك، نهاية العام فرصة علاجية نادرة لأن العقل يكون في أعلى درجات استعداده للتغيير. أنصح بثلاث خطوات: الاعتراف الصادق بما لم ينجح دون جلد، والامتنان لما جعلنا أقوى، والنية الواضحة لما نريده في القادم. فالنوايا هي التي تصنع الاتجاه، لا القرارات وحدها.
في نهاية العام لا تسأل نفسك كم ربحت، بل كم نضجت، كم غفرت، وكم أحببت نفسك رغم العثرات. الوعي هو الثروة الحقيقية التي لا تُسجل في دفاتر الحساب بل تُكتب في القلب. وكل عامٍ جديد لا يولد من التقويم بل يولد حين نضع أيدينا على قلوبنا ونقول لأنفسنا: لقد عشت وتألمت وتعلمت، والآن حان وقت أن أزهر من جديد.