خارج الصندوق

الهروب الكبير

تصغير
تكبير

لا أحبُّ تغيير المسميات أو تفخيم الألقاب أو تعويم المصطلحات لتتماشى مع قوتي أو ضعفي، أو مزاجي أو طاقتي وقدرتي تبريراً لنفسي وفعلي؛ فيما أُجبرنا عليه ولم نختره، وفيما وُضع في طريقنا فاستسلمنا له، وفيما اخترناه وأقنعنا أنفسنا بأنه لا عيش لنا بدونه، وفيما لم نفكر باختياره وقلنا إنه ضروري ولا يصحُ العيش بدونه. وكل ذلك وهمٌ، وألمُ إدراكه أشدُّ على النفس الجبانة من ألم التفكير به وتصنيفه ثم مواجهته فعلاجه، في التنازل أو ترك ما لا غاية منه، وكلُّنا جبناء.

يتعرّض الإنسان في حياته المليئة باللاوعي، والغارقة في بحر الترف، والمهددة بانقراض الشعور، والقابلة للضياع في زحام الاستهلاك، والمتأخرة — رغم التسارع الرهيب في كل شيء — إلا في المدركات التي أعتقد أنها عجزت عن مواكبة السرعة؛ يعيش الفرد ضائع الفكر، تائه الذهن، ثقيل الخطى، ضارباً بالواقعية عرض الحائط، محاولاً رسم الخيال الذي لا يعرف له شكلاً ولا هيئة ولا حدوداً، ولا أرض انطلاق، والفرح الذي لا يدرك بداياته ولا الغاية منه ولا كيفية الوصول إليه، غير أنه يريد الفرح الذي لا يعرف منه إلا اعتقاداً بلا اعتقاد بأنه فرح، ولا حتى كيفية التعبير عنه.

كل تلك الأمور تجعل الشخص لا يعرف سبيلاً للمقاومة أو التفكير، إلا اللجوء — مضطراً — إلى هروبٍ كبيرٍ واضح لكل مدرك، حتى الهارب نفسه، إذ يهرب بجبنه وخيبته من جبنه وخيبته، يستر خوفه وبؤسه في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، ليحكم على عقله بالمعروض، وعلى تفكيره بالاقتناع بالوهم، وعلى مشاعره بإحساسٍ لا يشعر به ولا يعنيه الشعور به أصلاً؛ لظنه أن هذا فرحٌ، وذاك حُبٌّ، وذلك إنجازٌ، وغيره إعجابٌ، وتلك حريةٌ وهذه معلومة وواقع.

فيسقط في إطار هذا القالب المؤطَّر بزيف التجديد والتغيير، ظنّاً أن لا إطار يحويه ولا حيز يضبطه، وكل ذلك هروبٌ خفيٌّ من الجبن في مواجهة الأسد الكامن في داخله؛ وهو النفس الكسولة الواهمة صاحبها بالتغيير والتوافق مع الزمن. إمّا هكذا تكون الحياة، وإلّا فلا عيش ولا فرح ولا حب ولا سعادة ولا إنجاز. ومنها وفيها ومعها تزيد أحمال الخيبة والخذلان، ويزداد الثقل المصاحب طرداً للنفور من مواجهة النفس.

والأثقل و الأدهى والأمرّ على الإنسان غير المُدرك حين يعلّق خيباته وأسباب ألمه على مَنْ حوله، والمطلوب منهم مسؤوليات تجاهه والعكس؛ فيظنُّهم مانعين لفرحه الذي لم يفرحه، وإنجازه الذي لم ينجزه، وتحرره الذي لم يحصل عليه، بينما هو لايزال عبدَ كسله وخموله، ميتاً رغم تنفّسه وقلبه الذي لايزال ينبض.

أعتقد أن الحياة مليئة بالصخب الذي يحجب أسماعنا عن سماع أصواتنا الجميلة التي تنبع من داخلنا وذواتنا، تلك التي تحدثنا بما يليق بها، وقلوبنا الصادقة الطاهرة التي تخبرنا حقاً وصدقاً بما ترغب به دون مشتتات خارجية تُضعف الصلة بيننا وبين بواطننا.

والسبيل إلى ذلك يكون بالصمت والعزلة وتصفية الذهن، ويقينٍ بأن القلب والباطن لديهما ما يخبرانك به، ولديهما حاجتهما منك، التي إن لم تنصت لها بهدوء فلن تعرفها وتدركها وتعمل بها. حينها ستدرك باطنك الجميل وقلبك النقي الذي يخبرك بما يريد وما لا يريد، وما يحب وما يكره، وما يفرحه وما يحزنه، وأين مأمنه ومخاوفه؛ ضمن ضوابط فطرته السليمة السوية التي يمليها على جوارحك ومدركاتك الحسية مستعيناً بميزان العقل، فيكون الفرح داخلياً، ثمّ قِس عليه بقية مراداتك.

ذلك الإدراك يجعلك تُغرّد خارج السرب الذي ينعق كالغربان في سماء دنياك التي تراها صافية. فإن كانت الشجاعة لاتزال تحلو في عينك، وصوتك الداخلي مازال صافياً وتستمع إليه بوضوح دون مشوشات؛ فاضرب بالذوق العام عرض الحائط، واستمر مع نفسك، وواجه الحياة بما يحلو لك لا بما يُملى عليك.

وقد يكون الإدراك مؤلماً لشعورك ولو جزئياً بالوحدة، لكنها ليست إلّا خروجاً من حظيرة الإدمان والضعف والعبودية للوهم إلى رحابة الحرية والحقيقة. وأجزم أنه لو ضاقت الدنيا، ففي داخلنا عالمٌ رحبٌ جميل، فيه متّسع لنا ولمن نحب. يكفينا أننا به نعرف الله ونؤمن به ونحبه ونخافه، ونحب نبيه ونصدّقه. فنكون بذلك قد هربنا من الدنيا ومن أنفسنا إلى خير مفرٍّ وخير مهرب وإلى خير ملجأ.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي