بعد انتهاء معرض الكتاب، كان الحديث الذي أخذ حيّزاً من لقاءات القرّاء والأصحاب عند التلاقي هو السؤال عن حال المعرض؛ فكلٌّ يجيب من ناحيةٍ ما: فالكاتب يرى إقبال الناس على كتابه، وصاحب دار النشر يقيسه بالمبيعات والأرباح والخسائر، والمحاضرون يقيسونه بمدى دعوتهم أو دعوة أصحابهم للمحاضرات، والبعض يقيسه بازدحام الناس في المعرض كمؤشّرٍ للنجاح.
وبين كل تلك المداخلات واختلاف الآراء وأدوات القياس المختلفة، تَبادر إلى ذهني أمرٌ وكأن قول الله تعالى يتمثّل أمامي: ﴿ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾ (سورة التكاثر). فكثيراً ما أرى قرّاء يشترون كتباً ليسوا بحاجةٍ إليها، أو يشترونها من باب التجميع لا القراءة، أو لأن طبعة دارٍ معيّنة أفضل من طبعة دارٍ أخرى، بينما لا أرى أحداً حرم نفسه لقمةً ليشتري كتاباً، أو جوّع أولاده لاقتناء كتاب وهذا فضلٌ يستوجبُ شكراً.
وهذا لا يقلّل من قيمة القارئ في أي ظروفٍ كانت من العيش، ولكنه استشعارٌ للمسؤولية تجاه نعمة الرخاء أمام المُنعم. فإذا كُفي الإنسانُ رزقه، وجب عليه أن يؤدّي زكاة هذه النعمة، وأقلّها القراءة الجادّة، أو استشعار نعمة الوقت والمال والصحة؛ فهي نعمٌ ليست بالقليلة، بل هي أعظم النِّعم التي قسمها الله له. وتكون القراءة حينها وسيلةً لتحرير العقل من قيود الاتباع الأعمى، ودرباً للتفكّر والتدبّر الذي أمرنا به، وقليلاً ما نأتمرُ به.
وأعتقد أنه لو نظر الإنسان في حاله لعرف أن الوفرة والرخاء والترف الذي يعيش فيه هو نعمةٌ تستوجب استغلالها في إعمار الوقت والشعور بالمسؤولية، مقارنةً بمن حالت ظروفه دون شراء كتاب قد يكون في أمسّ الحاجة إليه لإنجاز بحث، أو استكمال دراسة، أو حتى لمجرّد الاطلاع. فيعرف حينها قيمة ما لديه من وقتٍ ومالٍ وصحّة، ليقرأ ويسدّ ثغرةً مجتمعية بشرية بأداء زكاة العلم: كنشر فائدة، أو إيصال معلومة.
ومن الأمور التي تجعلني حريصاً على حضور معرض الكتاب بشكل شبه يومي هو الالتقاء بالقرّاء والكتّاب والمفكرين والمثقفين، وتبادل الآراء والخبرات، والتناصح في الكتب التي لم أقرأها بعد، أو مناقشة الكتب التي قُرِئت؛ فربما تقرأ كتاباً من منظورٍ آخر وزاويةٍ أخرى فتصل إلى نتيجة مختلفة.
فتلك اللقاءات تُعدّ دافعاً نفسياً يدفع إلى الأمام، ويقاوم فتور القراءة الذي يغزو القارئ بين فترةٍ وأخرى، فيسعى القارئ بشتى الطرق للخروج من ذلك الفتور الثقيل على النفس، المانعِ مما يحبّ.
كانت هذه الفترة محفّزةً، مشجّعةً، دافعةً - إضافةً إلى اقتناء كتبٍ جديدة تبعث في النفس الحافز. وإن كان الدافع للقراءة هو الفراغ وتوافر المادة، فذلك خيارٌ ناجح؛ فلا أحبُّ إلى قلبي من شخصٍ وجد عنده مالاً ومتّسعاً من الوقت فاستثمره في عقله، فهو خير ما يُستثمر فيه، ليعود ذلك الاستثمار على إيمان القلب، ونقائه من فراغ الغاية، وغياب الوجهة القلبية، والخواء الروحي الذي يدفع الإنسان إلى ضياع المال والوقت وإتلاف العقل وظلمة القلب.