«المكتبة» نظمت فعالية استثنائية تخليداً لمسيرة الأديب الراحل
عبدالكريم البابطين... الغائب الحاضر في «يوم الوفاء»
- سعود البابطين: كان مثالاً للفروسية الأخلاقية والإنسان النبيل
في «يوم الوفاء» تدفق جزل الكلام، وبكت لأجله قصيدة الرثاء...
إذ نظمت مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي فعالية استثنائية تحمل عنوان «يوم الوفاء»، تخليداً لمسيرة الأديب الراحل عبدالكريم سعود البابطين، أحد أعمدة الإبداع في الأسرة الثقافية المعروفة بعطائها الفكري ودعمها المستمر للمشهد الأدبي العربي.
وجاءت هذه المبادرة، التي أقيمت صباح اليوم، تأكيداً على حضور إرث الراحل في ذاكرة المكتبة ورسالتها، وترسيخاً لقيمة الوفاء لمن أسهموا في بناء الوعي وصون جماليات اللغة العربية، وتقديراً لإسهاماته التي رسّخت القيم الإنسانية ورفدت الثقافة العربية بمنجزٍ نوعي.
وانطلقت الفعالية بافتتاح معرض توثيقي ضم مقتنيات الأديبَيْن الراحلين عبدالعزيز سعود البابطين وشقيقه عبدالكريم سعود البابطين، إضافة إلى نماذج من إنتاجهما الأدبي، عاكسةً مسيرة إبداع عائلي ممتد ومؤثر.
وعلى مسرح المكتبة، تولّى الشاعر رجا القحطاني تقديم فقرات البرنامج، فيما رحّب رئيس مجلس أمناء المؤسسة، سعود عبدالعزيز البابطين، بالحضور، قبل أن يُلقي كلمة مؤثرة قال فيها: «نستعيد في هذا اليوم سيرة رجل عاش للأدب قبل أن يعيش لنفسه. عمّي عبدالكريم (رحمه الله) لم يكن مجرد أديب يترك حروفه على الورق، بل كان يؤمن بأن الثقافة فعلٌ يغيّرالوجدان، وأن الكلمة قادرة على أن تنهض بالإنسان. وحين كان والدنا (رحمه الله) يجوب العالم لانشغالاته التجارية في السبعينيات، تولّى عمّي رحمه الله —رعايتنا بأخلاق الأب، وقلب المعلّم، ووعي المثقف الذي يغرس القيم قبل أن يزرع المعرفة. كان رحمه الله مثالاً للفروسية الأخلاقية والإنسان النبيل الذي يهب وقته وجهده لمن يحب».
وأضاف «أعطانا من وقته وقلبه ما يفوق طاقة أي شاب في عمره آنذاك، إذ تابع تدريسنا وسلوكنا، وحرص على أن نكبر بأخلاق راسخة، وكان يُشعرنا دائماً أننا أولويته الأولى. لم يكن يؤدي دور العم فقط، بل دور الأب الحاضر في أدق تفاصيل حياتنا».
وأكمل «علّمنا أن الأسرة رابطة تُمارس بالفعل لا بالخطاب. لذلك يبقى عمي عبدالكريم جزءاً راسخاً من تكويننا العاطفي والإنساني، وذكرى غالية لا يحدّها الزمن ولا تغيب عنها القلوب».
وختم بالقول: «رحمه الله بقدر ما منح وبقدر ما أثرى حياتنا بمحبةٍ لا تُنسى».
تلا الكلمة عرض فيلم وثائقي تناول محطات الراحل الفكرية وإسهاماته في بناء الوعي الثقافي.
«ندوة فكرية»
في غضون ذلك، انطلقت ندوة فكرية أدارها الإعلامي الدكتور غالب العصيمي، شارك فيها نخبة من المفكرين والأكاديميين: الدكتور رشيد الحمد، والدكتور أحمد السعدان، والمهندس عادل أحمد البابطين، إلى جانب خليل علي حيدر والدكتور عبدالعزيز بن لعبون. وقد تناولت الندوة الشواهد الفكرية لإبداع الراحل عبدالكريم سعود البابطين، ودوره في ترسيخ قيم الثقافة والتنوير، وتعزيز المسؤولية الاجتماعية للمثقف العربي.
«نوادر النوادر»
استهل الدكتور رشيد الحمد الحديث باستعادة ذكرياته مع الراحلين عبدالعزيز وعبدالكريم البابطين، مؤكداً أنه رافقهما في أسفار كثيرة شكلت محطات لا تُنسى. وأشار إلى سلسلة «نوادر النوادر من الكتب» التي بذل الراحل جهداً كبيراً في جمعها، إذ ضمّت أقدم المطبوعات النادرة التي تمثل ثروة معرفية مهددة بالاندثار، فكانت إحدى أبرز مفاخر مكتبة البابطين وإسهاماً حقيقياً في نشر الأدب والثقافة عالمياً. وأضاف الحمد: «استلطفت كلمة النوادر، فالراحل نفسه كان نادراً في طبعه وتواضعه وأخلاقه. عرفته في دواوين الكويت وفي ندوات مؤسسة البابطين الثقافية، وكان حضوره يضفي على المكان ألفة ومحبة واحتراماً». وتابع: «كان يعجبني تواضعه الجمّ، إذ اعتاد الجلوس في المقاعد الخلفية ليفسح المجال للضيوف في الصفوف الأمامية».
«سنوات الدراسة»
من جهته، قال الدكتور أحمد السعدان إنه تعرف على الراحل في الجامعة عام 1966، حيث اختار الراحل كلية التجارة بينما التحق هو بكلية الحقوق. ومضى يقول: «آنذاك شعرت بقربه مني في جوانب كثيرة، فانسجمت روحانا وتوثقت صداقتنا، وظل اللقاء بيننا مستمراً طوال أيام الأسبوع». وأشار السعدان إلى اللقاءات المتكررة التي جمعتهما أثناء المحاضرات المشتركة بين كليات الحقوق والتجارة والاقتصاد، لافتاً إلى الدور البارز للراحل في الأنشطة الطلابية، لا سيما الندوات الأدبية والأمسيات الشعرية، كونه كان يحفظ الكثير من القصائد. وختم: «كنت شاهداً على كرمه اللامحدود وسجاياه النبيلة، فقد امتدت يده البيضاء إلى العديد من المشاريع الإنسانية داخل الكويت وخارجها، وصولاً إلى الولايات المتحدة».
«أسرة كريمة»
أما الدكتور عبدالعزيز بن لعبون، فعبّر عن حزنه العميق لرحيل عبدالكريم البابطين قائلاً: «إن كل المصائب تبدأ كبيرة ثم تصغر مع الوقت... إلا فاجعة رحيل عبدالكريم البابطين؛ بدأت كبيرة وستظل كذلك». وأضاف: «كان بالفعل ابن أسرة كريمة، نشأ في مجالس عامرة بالعلم والعلماء، وتربى على مكارم الدين والأخلاق. وقد تميز هو وإخوته بالحكمة والصبر والتسامح وبُعد النظر في التجارة والاستثمار». واستطرد: «كنا في طفولتنا لا نضيع وقتنا، نقرأ القرآن أو مجلة العربي أو كتب الأدب. كان يمتلك ذاكرة قوية وذائقة شعرية مميزة، وبنى بذلك شخصية ذات حضور أدبي وثقافي مؤثر».
«حصار التواضع»
في سياق موازٍ، أعرب الكاتب خليل علي حيدر عن فخره بوجود شخصية مثل عبدالكريم البابطين في الأدب الكويتي والعربي. وأوضح أنه لم يجلس إليه مباشرة، لكنه نشر يوماً مقالاً عن أحد الكتب ضمن سلسلة «نوادر النوادر من الكتب»، فتلقى اتصالاً من الراحل عبدالعزيز البابطين يخبره بأن عبدالكريم يرغب في محادثته، وقد تواصل معه بالفعل وأثنى على ما كتب. وأكد حيدر أن «عبدالعزيز وعبدالكريم البابطين رحمهما الله يحاصرانك بتواضعهما، إذ يتحدثان ببساطة ورزانة وعمق». وأشار إلى أن مؤسسة البابطين تولي التراث العربي اهتماماً كبيراً، وتضع أموالها في ما ينفع المجتمع والإنسانية، وهذا هو العطاء الحقيقي، على حد وصفه.
«خصلة التسامح»
أما المهندس عادل أحمد البابطين، فقال: «الحديث عن سيرة الفقيد يحتاج إلى وقت طويل، لكنني سأختصر، فقد كان ذا خُلق كريم وعطاء لا حدود له، ويمتلك كنزاً من المحبين». وأوضح أن علاقتهما بدأت منذ الطفولة، جمعتْهما القرابة والزمالة ثم الصداقة التي لم تنقطع حتى رحيل الراحل. وتوقف عند «خصلة التراضي والتسامح» التي تميّز بها عبدالكريم، واصفاً إياها بصفة ليست سهلة، إذ تجنح النفس عادة إلى رد الفعل بالمثل، لكنه قدّم المحبة والتسامح على كل شيء. واستذكر حادثة إنسانية وقعت أثناء عودته من الولايات المتحدة، حين أبلغته موظفة المطار زوراً بإلغاء رحلته، واتضح لاحقاً أن الأمر كان بدافع عنصري. ورغم كسبه القضية وحصوله على تعويض كبير، طلب من محاميه التنازل عن المبلغ والاكتفاء بالاعتذار، في مثال يجسد نقاء قلبه وسمو أخلاقه.
قالوا لـ «الراي»
| كتبت دلال العياف |
أعرب رئيس مجلس أمناء المؤسسة، سعود عبدالعزيز البابطين لـ«الراي» عن سعادته بما وصفه «الجمع الكريم، ممن شرفونا بتكريم عبدالكريم، ولا شك بأن وجودهم اليوم جسّد معنى الوفاء بالكامل، لشخصية نادرة، إذ تعلم الكثير من شقيقه عبدالعزيز وتأثر به، وكان ملاصقاً له مثل ظلّه، منذ الولادة وحتى رحيله».
وأشار البابطين إلى أن «يوم الوفاء» لا يوفي الراحل حقّه، لا سيما وأنه عمل بدأب لحفظ التراث العربي، عبر اقتناء الكتب القيمة، فقد كان يتنافس مع مؤسسات ثقافية كبيرة غير عربية، تسعى لطمس الحقيقة أو إبعادها عن متناول أيدينا، و«لذلك كان حريصاً لاقتنائها حتى تكون محفوظة وفي متناول الجميع».
بدوره، قال الإعلامي الدكتور غالب العصيمي إن مشاركته في تقديم الندوة الفكرية في «يوم الوفاء» للراحل كانت واجباً، «لنستذكر قامة أدبية وثقافية كويتية كبيرة، لها إسهامات بارزة في مجالات الثقافة والإبداع والأدب الكويتي».
ولفت إلى أنه في ظل وجود هذه الأسماء الكبيرة من الكويت والمملكة العربية السعودية وغيرها من الدول الشقيقة الذين حضروا «يوم الوفاء»، دليل على أن مسيرة الراحل لم تأتِ من فراغ.
من جهته، أكد سفير مملكة البحرين صلاح علي المالكي لـ «الراي» أن الراحل ترك أثراً كبيراً في ساحات الأدب، الكويتية والخليجية والعربية، مشيداً برفاق درب الراحل، الذين رافقوه بمسيرته، ليستذكروا مآثره بوفاء الأصدقاء.