بين الصمود والعجز الدولي... إسرائيل دولة تُعيد حساباتها

غزة تحيا على رمادها... وتل أبيب تُفتش عن «مفهوم النصر»

إسرائيل سوّت معظم أنحاء غزة بالأرض (رويترز)
إسرائيل سوّت معظم أنحاء غزة بالأرض (رويترز)
تصغير
تكبير

تعيش غزة اليوم على أنقاضٍ لم تبرد بعد. الركام لايزال دافئاً، والغبار عالقاً في صدور الناس الذين يبحثون عن نافذة ضوء وسط دخانٍ كثيف. في الأحياء التي كانت يوماً تضجّ بالحياة، صار السير على الطرق المهدّمة يشبه اجتياز الذاكرة ذاتها؛ كل حجر يحمل اسماً، وكل زاوية تختزن نداء استغاثة أو وعداً بالنجاة لم يتحقق.

في المقابل، تتخبط إسرائيل داخل أزماتها السياسية والعسكرية، عاجزة عن ترجمة حربها الطويلة إلى أي «نصرٍ حقيقي»، تائهة بين مفاهيم الردع والإنجاز والانتصار.

منذ نحو عام، يعيش القطاع حالة حصار خانقة بعد موجات القصف التي لم تترك بيتاً إلا وأصابته بالشظايا أو الرماد، فالمستشفيات تعمل بأدنى طاقتها، والمدارس تحولت إلى ملاجئ تؤوي آلاف العائلات، ومياه الشرب شحيحة، والكهرباء لا تأتي إلا لساعات معدودة، فيما يقف الناس في طوابير طويلة أمام مراكز الإغاثة في انتظار كيس دقيق أو علبة دواء.

لكن ما يثير الدهشة وسط كل ذلك، أن غزة لاتزال تنبض بالحياة، حيث يعرض الباعة ما تبقّى من الخضراوات على عرباتهم المتهالكة، الأطفال يلعبون على أنقاض بيوتهم، والنساء يخبزن الخبز فوق النار كأنهن يخبزن الأمل ذاته... إنها مدينة ترفض الموت، وتصرّ على البقاء مهما كانت الكلفة.

في المقابل، تواجه الحكومة الإسرائيلية واحدة من أعقد أزماتها منذ عقود. فالحرب على غزة لم تمنحها «الردع» الذي وعدت به، بل كشفت هشاشة جبهتها الداخلية وتناقضاتها السياسية. لجان التحقيق تتكاثر، والمسؤولون يتبادلون الاتهامات: مَنْ أخطأ؟ ومَنْ خذل؟ ومَنْ يملك مفهوم النصر؟

في الكنيست، تتصاعد الخلافات حول مستقبل القطاع، ويدور الجدل حول ما إذا كانت الحرب قد حققت أهدافها أم أنها كانت عبئاً أخلاقياً واستراتيجياً على إسرائيل نفسها. ومع كل تقريرٍ عسكري جديد، تزداد القناعة أن «النصر» الذي تبحث عنه إسرائيل لم يكن في الميدان، بل في الوهم السياسي الذي بنته لنفسها منذ سنوات.

مأزق الضياع بين الحرب والهوية

داخل المجتمع الإسرائيلي، يزداد الشرخ بين مَنْ يريد استمرار الحرب «حتى تحقيق الردع الكامل»، ومَنْ يرى أن «إدارة الصراع» هي الحل الوحيد الممكن. وفي حين يتحدث قادة الجيش عن «العودة إلى الردع»، يواصل اليمين المتشدد خطابه المتطرف، رافضاً أي نقاش حول التسوية أو المصالحة.

ويعيش الشارع صدمة ما بعد الحرب، وتظاهرات عائلات الأسرى في غزة أصبحت تعبيراً عن مأزق أخلاقي حقيقي: كيف يمكن لدولة ترفع شعار القوة أن تعجز عن حماية نفسها واستعادة أسراها؟

ورغم الجراح، تمضي غزة في محاولتها لترميم ذاتها. تتسلل الحياة من بين الحجارة، كأن المدينة تصرّ على أن تكتب سطرها الأخير بنفسها، لا بقلم أحدٍ سواها. في المخيمات، الأطفال يبتكرون ألعابهم من بقايا الحرب، والجدّات يروين قصص البطولة على ضوء الشموع.

ولا يُفسَّر هذا الصمود بالإيمان بالقضية فقط، بل أيضا بغريزة الحياة التي تجعل الغزيّ ينهض كل صباح رغم كل شيء، ليواصل حياته وكأن الغد ممكن فعلاً.

أما العالم، فصمته يبدو أكثر وجعاً من دويّ القصف. بيانات التنديد لم تعد تُطعم الجياع، ولا تسعف الجرحى. المساعدات معدومة وقد تصل ببطءٍ يشبه الإهانة، والمجتمع الدولي يكتفي بمشاهدة مأساة تُعاد كل عقدٍ بزوايا مختلفة.

وتحذّر الأمم المتحدة من «كارثة إنسانية غير مسبوقة»، لكن أحداً لا يوقف النار ولا يفتح المعابر، وكأن غزة ليست سوى مشهدٍ متكرر في فيلمٍ طويل عن العجز الإنساني.

وفي الوقت الذي تغرق فيه إسرائيل في لجان التحقيق والمفاهيم الأمنية، تغرق غزة في صمت رمادها، حيث تتنفس المدينة على أنقاضها، تبحث عن ماءٍ نقي ولقمةٍ سالمة وسط الركام. في الأزقة التي كانت يومًا تضج بالحياة، تتكدّس العائلات في خيام من القماش الممزق، يلوذ الأطفال بظلّ جدران مهدّمة، وتواصل الأمهات طهو الحلم على نار الانتظار.

والليل هناك طويلٌ كوجعٍ لا ينتهي، تتقطعه أصداء القصف القديم، ورائحة الإسمنت المطحون، وأصوات المآذن التي مازالت تنادي على الرجاء.

في المقابل، تجلس إسرائيل على طاولة حساباتها الباردة، تراجع خرائطها وخطوطها الصفراء، وتختلف على «المفهوم»، بينما يفقد الفلسطينيون في كل يوم مفهوم الحياة ذاته.

ومع كل صباح، بين غبار الإعمار الموعود وهدير الطائرات البعيدة، يبقى السؤال معلّقاً في سماء غزة: هل يمكن للسياسة أن تُعيد للمدينة قلبها، قبل أن يُعيدها القصف إلى الحرب من جديد؟

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي