في الثامن من نوفمبر عام 2025، ترجّل الأستاذ الدكتور عبدالله هدية، عن صهوة الحياة الفانية، إلى رحاب الدار الباقية، بعد رحلة حافلة بالعطاء والفكر والنبل. مضى تاركاً إرث العلماء في عقولنا، ودفء الإنسان البشوش في قلوبنا، وكأننا ما زلنا نسمع ضحكته التي تُزين الذاكرة وتخفف وطأة الفقد.
لا أدري من أين أبدأ الحديث عن سيرته، فهي كبحر لُجي، وهو معلم لا تحيط به كلمات شعر المعلقات. في كل محطة من حياته تشعبات وروافد من الدروس والمواقف، تدعوك للتأمل والتوقف عند كل ناحية فيها لتتمعن زخارفها. لقد كان، رحمه الله، ترجماناً لقصة طويلة من النضال والعلم، ومعلماً للصبر والمبدأ، أكاديمياً رحّالاً لا يعرف الاستقرار إلا حيث يكون للحق مكان، يحمل حقيبته متى شعر أن الرحيل هو الطريق إلى الكرامة، دون أن يتنازل عن قناعة أو يساوم على مبدأ.
عرفت أستاذنا الكبير منذ كنت طالباً في قسم العلوم السياسية. كانت الجامعة قد اشترطت، في سابقة لم تتكرر، أن يعمل المبتعث مع أستاذين لنيل التوصية. وكان أحدهما الدكتور عبدالله هدية، رحمه الله، والآخر كان المغفور له الدكتور كمال المنوفي. حضرت معه محاضراته، فكنت أراه في كل مرة جديداً في عرضه، مبدعاً في تحليله، مدهشاً في طريقته، لا يكرر نفسه ولا يعيد الفكرة إلا وقد ألبسها ثوباً من نور العلم ونسج منها صور الإبداع.
توطدت بيننا صداقة امتدت لسنوات طويلة، جمعتنا بحوث ونقاشات ومساجلات فكرية لا تنسى. وبعد أن عاد إلى القاهرة، ظلت بيننا خيوط الحديث لا تنقطع، نحادث بعضنا عن الدنيا وهمومها، وعن الحنين والوحشة والوحدة بعد رحيل رفيقة دربه، التي كانت بمثابة ابتسامته الأبدية وسنده الصامت.
شق طريقه في بداياته وكيلاً للنيابة، فعمل بشرف وعدل، وطبق القانون كما ينبغي، حتى ضاق به بعض المتنفذين ذرعاً. في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، رفع شعار القومية والوطنية الذي آمن به دون أن يذوب في المؤسسة الرسمية. وفي زمن الرئيس أنور السادات، عارض دون أن ينجرف إلى تيار ديني أو يتلون بلون سياسي، فدفع ثمن موقفه تهميشاً، لكنه لم يفرط في كرامته التي كانت أعز ما يملك قولاً واحداً. أما في عهد الرئيس حسني مبارك، فلم يساير السلطة ولم يصعد قطارها، رغم كل محاولات الاحتواء والإغراء.
رحلته الأكاديمية كانت زاخرة بالتجارب والمحطات، فقد شد رحاله إلى باريس، وانضم إلى جامعتها العريقة، فدرس السياسة والقانون، وعاد مسلحاً بالقلم والعلم والانضباط. درس في جامعات مصر من أسيوط إلى أسوان، والسويس وغيرها، ثم استقر في الكويت في مطلع الثمانينات، وغادرها قبل الغزو الغاشم، ليعود إليها في الألفية الجديدة، قبل أن يستقر أخيراً في القاهرة، حيث واصل التدريس والإشراف على رسائل الدكتوراه، مانحاً من علمه ما لا يقدر بثمن.
لم يكن أبو خالد رجلاً عادياً، ولم يكن مجرد قانوني صارم أو أكاديمي محنك، بل كان أديباً مفوهاً، محباً للغة العربية، قارئاً للشعر والرواية، ومجيداً لفنون النثر والبيان. كان يسرد الأحداث بأسلوب مشوق ينسجه بخيوط من الفكر والفن معاً في غالب واحد، ويطعمها بإسقاطاته الذكية ونفسه الأدبي العذب.
كان قلمه سيالاً حاداً، يجرح الخطأ دون أن يهين صاحبه، ويصيب الهدف دون أن يخل بأدب النقد. إذا كتب، أدهشك بأسلوب يجمع بين السخرية الرشيقة والرصانة الفكرية، يضحكك قليلاً لتفكر كثيراً. كان يوازن حدة الكلمة بخفة الدعابة، فلا يلتقي خصمه ومحبه إلا على أريكة واحدة من الاحترام والإعجاب.
كان صريحاً، عفيفاً، ذا مبدأ وكلمة، لم يعرف الانحناء إلا لله، ولم يقبل الانتقاص من كرامته يوماً. لم ينتم إلى حزب أو تيار، ولم يضع نفسه تحت مظلة سلطة أو مصلحة. كان قلبه واسعاً، يفيض بالطيبة، لا يحمل ضغينة حتى لمن أساؤوا إليه. كان إذا قدر له أن يساعد أحداً، فعل ذلك بابتسامة صافية كصفاء سريرته.
رحل أبو خالد، ورحل معه الكثير من الود والوفاء، لكن بقي بياض قلبه وسيرته العطرة شاهداً على زمن جميل مر من هنا.
رحمك الله يا أستاذنا الجليل، وجعل مثواك الجنة، جزاء لمن علم فأنار، وصبر فثبت، وعاش نقياً كما عاش عظيماً.