سافر إلى ذاتك

ما فينا إلّا العافية

تصغير
تكبير

جملة نرددها كثيراً، خصوصاً بعد الألم، لكنها تحمل في داخلها أكثر مما يبدو.

«ما فينا إلا العافية» ليست إنكاراً، بل أحياناً محاولة لتذكير النفس أن الحياة ما زالت تمشي، وأن الجرح وإن كان عميقاً، لم يسلبنا القدرة على الوقوف. العافية هنا لا تعني غياب الوجع، بل حضور الوعي بأننا رغم كل ما فقدناه ما زلنا نحيا، ونتنفس، ونكمل الطريق.

الصدمة لا تبدأ حين يحدث الألم، بل حين يعجز الجسد عن استيعاب ما حدث. هي ليست موقفاً يمرّ، بل طاقة عالقة في الذاكرة والمشاعر، كأن الزمن توقف في لحظة الخوف. يعود الإنسان إلى حياته اليومية، يبتسم، يذهب إلى عمله، لكن شيئاً بداخله ما زال واقفاً عند الحدث ذاته. جهازه العصبي لم يفهم بعد أن الخطر انتهى. ولهذا ترتفع هرمونات التوتر، يتسارع نبضه، ويعيش بين نوبات من الخوف أو الخدر، لا يعرف لها سبباً واضحاً.

في علم النفس، يُقال إن الجسد يتذكّر ما ننساه. فحين يتعرض الإنسان لتهديد أو فقد أو خيانة، يُعيد دماغه تشغيل وضع النجاة: القتال، الهروب، أو التجمّد. لذلك ليس غريباً أن يشعر الشخص بعد الصدمة بأنه ما زال «هناك» حتى بعد مرور الزمن. الحل لا يكون في التجاهل، بل في الاعتراف. الاعتراف ليس ضعفاً، بل أول خطوة نحو الشفاء. حين يقول الإنسان «أنا موجوع»، يبدأ الاتصال الحقيقي بين وعيه وجسده. هذه الجملة وحدها كفيلة بتفعيل مراكز التنظيم العصبي التي كانت خامدة.

الجسد هو الطريق الأول للتعافي، لأنه أول من تأذّى. التنفس البطيء، المشي المنتظم، النوم الكافي، وحتى الاستحمام بماء دافئ، كلها رسائل طمأنة ترسلها للأعصاب، لتخبرها أن الخطر انتهى وأن الأمان عاد. هذه التفاصيل الصغيرة هي بداية استعادة السيطرة على الجسد قبل الذهن. فالجسد لا يشفى بالأفكار، بل بالشعور.

ثم تأتي خطوة تسمية المشاعر بدل مقاومتها. حين نقول لأنفسنا «أنا خائف»، «أنا مجروح»، «أنا مشتاق»، يتراجع النشاط المفرط في مراكز الخوف في الدماغ، ويبدأ الوعي في قيادة التجربة. التسمية تمنح المشاعر شكلاً يمكن التعامل معه، بدل أن تبقى طاقة مبهمة تضغط من الداخل. لذلك من المهم تخصيص وقت يومي للتفريغ: كتابة، صلاة، بكاء، حديث صادق مع النفس. كل ذلك ليس ضعفاً، بل هو تدريب على الوعي.

الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون هو جلد الذات. نلوم أنفسنا لأننا لم نتصرف كما يجب أو لأننا لم نحْمِ أنفسنا. لكن الصدمة لا تحدث لأننا ضعفاء، بل لأنها تجاوزت قدرتنا على التحمل في تلك اللحظة. الجملة العلاجية الأهم التي يحتاجها كل مصدوم هي: «أنا تعرضت لحدث مؤذٍ، وهذا لا يعني أني ضعيف، بل إنساني». حين نصدقها، يبدأ التحول.

الدعم في مرحلة الصدمة ضروري، لكنه يحتاج ذكاءً. ليس كل من يحبنا يعرف كيف يسمعنا. أحياناً نحتاج إلى شخص واحد فقط لا يحكم ولا يقدم نصائح، بل يجلس بجانبنا بصمت حنون. هذا الأمان العاطفي يُعيد بناء الثقة التي تهدمت في داخلنا. وإن لم نجده في دائرة المقربين، فالمختص النفسي هو المكان الآمن الذي يسمح لنا بالتعبير دون خوف أو خجل.

بمرور الوقت، تبدأ مؤشرات التعافي بالظهور: يصبح النوم أعمق، البكاء أقل، الانفعال أهدأ، وتعود الرغبة في الحياة. التعافي لا يعني النسيان، بل أن نعيش دون أن نحمل الماضي في كل خطوة. هو موجات، تتراجع مع الأيام حتى تصير كأنها همس في الخلفية لا يوجع، لكنه يذكّرنا بأننا نجونا.

بعض الناس بعد الصدمة يكتشفون في داخلهم معنى جديداً للحياة. الأم التي فقدت طفلها تجد رسالتها في دعم الأمهات الأخريات، والرجل الذي خسر عمله يبدأ مشروعاً يحمل رؤيته الخاصة. الألم يتحول إلى حكمة، والوجع يصبح لغة يفهم بها الإنسان نفسه والعالم. هكذا تتحول الصدمة من نقطة انكسار إلى نقطة وعي.

وحتى لو لم يختفِ الوجع تماماً، فقولنا «ما فينا إلا العافية» يصبح اعترافاً ناضجاً بأننا لم نعد كما كنا، لكننا بخير بما يكفي لنكمل، ونتنفس، ونحب، ونتعلّم. لأن العافية ليست غياب الألم، بل قدرتنا على العيش بسلام معه.

تحياتي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي