سافر إلى ذاتك

حين يختارنا الترتيب قبل أن نختار قلوبنا

تصغير
تكبير

هل يُمكن أن يكون ترتيبك بين إخوتك هو السبب الخفي وراء طريقتك في الحب، ونظرتك للعلاقات، وحتى في مَنْ تختاره شريكاً لحياتك؟ سؤال يبدو بسيطاً، لكنه في علم النفس يفتح باباً واسعاً نحو فهم الذات.

فالأسرة هي أول مختبر عاطفي نعيش فيه، ومن موقعنا بين إخوتنا نتعلّم أول دروس الوجود: كيف نحصل على الاهتمام، وكيف نُحب، وكيف نحافظ على مكاننا في دائرة الحب. الترتيب الولادي، كما فسّره ألفرد أدلر، ليس مجرد رقم عائلي بل تجربة شعورية تُشكِّل الشخصية وتوجّه السلوك والاختيارات.

الطفل الأكبر هو التجربة الأولى لوالديه، يأتي محمّلًا بالتوقعات، محاطاً بالاهتمام في البداية، ثم محروماً من بعضه حين يأتي من بعده. يتعلّم باكراً معنى المسؤولية والسيطرة على انفعالاته، ويكبر وهو يخلط بين القوة والقبول، بين الأداء والحب.

في علاقاته العاطفية يميل لأن يكون الطرف الذي يتحمّل أكثر، ويشعر بالحب حين يُحتاج إليه. هو القائد، لكنه أيضاً أكثر مَنْ يخشى الفشل، وأكثر مَنْ يُخفي ضعفه. كأن الابنة الكبرى التي كانت دائماً «العاقلة» تجد نفسها زوجة وأمّاً في الوقت نفسه، تعطي من دون أن تطلب لأن دورها القديم لم ينتهِ بعد.

أما الطفل الثاني، فيولد ليجد أن البطولة قد سبقته، فيسعى جاهداً لخلق مساحة تخصه. ينشأ بروحٍ تنافسية وسعيٍ دائم للتميّز، فهو لا يريد أن يكون ظلاً لأحد. في الحب، يبحث عن شريكٍ يراه كما هو، لا كمقارنة مع غيره. يتعب من المقاييس والمقارنات، ويشعر بالراحة مع مَنْ يمنحه القبول لا التقييم. ربما يبدو مندفعاً في علاقاته، لكنه في العمق يبحث عن طمأنينة خالية من المنافسة، كمَنْ يسعى أخيراً لأن يهدأ من سباقٍ بدأه منذ ولادته.

الطفل الأوسط يعيش في المنتصف بين ضوء الكبير ودلال الصغير، فيتعلم الموازنة والتنازل ليحافظ على انسجام العائلة. هو الوسيط الهادئ الذي يرضي الجميع ليبقى موجودًا. يكبر وفي داخله رغبة دفينة أن يُرى وأن يُقدّر.

في الزواج، ينجذب إلى مَنْ يمنحه الضوء الذي فاته، إلى علاقةٍ يشعر فيها أن وجوده واضح وصوته مسموع. إنه الأكثر تفهمًا عادةً، لكنه أيضاً الأكثر حساسية تجاه الإهمال. رجلٌ أوسط أحبّ امرأة قوية الحضور، لأنها جعلته مرئياً بعد صمتٍ طويل، لكنه اكتشف لاحقاً أنه مازال يخاف أن يختفي.

الطفل الأصغر هو الحكاية الملوّنة للعائلة. يولد في بيتٍ مليء بالتجارب، فيُمنح الدلال والرعاية، ويعتاد أن تُزال أمامه العقبات. يكبر بعفوية جميلة، يميل إلى الحرية، ويبحث عن العلاقات التي تمنحه الحنان لا السيطرة. في الحب، يحتاج إلى مساحة ليكون طفلاً أحياناً، لكنه يهرب حين يشعر أن الالتزام يُخنقه. فتاةٌ هي الأصغر بين إخوتها قالت بعد زواجها من رجلٍ صارم: «أشعر أني عدت طفلة في بيت أبي لا زوجة في بيت حبٍّ جديد».

أما الطفل الخامس أو الأخير في عائلةٍ كبيرة، فيجد أن كل الأدوار قد شُغلت قبله، فيلجأ إلى التفرّد ليتميّز. يبتكر، ويتفنن، ويحلم. هو المبدع، المتمرّد، والعاطفي إلى حدّ المبالغة. يحتاج أن يُشعر نفسه بأنه مختلف ليحصل على الاعتراف.

في علاقاته يميل إلى الرومانسية المفرطة، لكنه قد يهرب من الواقع حين يصطدم به، لأنه نشأ على فكرة أن الحب شعور يُكسب بالإبداع والتميّز. فتاة خامسة بين إخوتها الخمسة اختارت رجلاً بسيطاً لأنها أرادت للمرة الأولى أن تكون عادية، لا «المميزة».

هذه الأنماط لا تُصنع صدفة، بل تولد من الديناميات الخفية داخل كل بيت. كل طفل يطوّر أسلوباً ليبقى محبوباً: الأكبر عبر المسؤولية، الثاني عبر التحدي، الأوسط عبر المرونة، الأصغر عبر الجاذبية، والخامس عبر الاختلاف. وحين نكبر نحمل هذه الطرق معنا، نكررها في صداقاتنا، في العمل، وفي الزواج. نحن نحب كما تعلمنا أن نُحب، ونسعى لأن نحصل من الشريك على ما لم نحصل عليه من البيت الأول.

لكن الوعي هو ما يحررنا من التكرار. حين يدرك الكبير أنه يستحق الراحة، والثاني أنه لا يعيش في سباق، والأوسط أنه مرئي حتى في صمته، والأصغر أنه قادر على الالتزام دون أن يفقد حريته، والخامس أنه لا يحتاج أن يكون مميزاً طوال الوقت ليُحب، عندها فقط نتحرر من الأدوار القديمة ونختار شريكنا بوعي لا بردّ فعلٍ لماضٍ مضى.

فهل يؤثر ترتيبك بين إخوتك على مَنْ تختاره شريكاً؟ نعم، إن لم تكن مدركًا له. أما حين تعرف نفسك بعمق، وتفهم جذور شخصيتك، ستكتشف أن الحب الحقيقي لا يُعيد تمثيل الطفولة، بل يرممها برفقٍ ووعي.

الحب لا يُولَد من الماضي بل من وعينا به، ومن عرف نفسه، عرف من يُكملها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي