«نحن أخوة بالطبيعة، ولكننا غرباء بالتربية»... الفيلسوف الصيني كونفوشيوس.
في منتصف الثمانينات من القرن والألفية الماضيين، وفي يوم اختبار إحدى المواد الدراسية، في نهاية الفصل الدراسي الثانوي مقررات، وبينما كنتُ متحمساً لتقديم الامتحان في مادة كان اجتيازها ضرورياً للتخرّج، مرّ في الفصل المدرس الأول للمادة بصفته مدرساً أول لها، ومعرفته بالطلبة سطحية، قلت له كيف حالك أستاذ، جاوبني وهو لا يعرفني، «أقص ايدي إذا نجحت»!
يا للصدمة، هذا كان رد التحية للطالب الذي كان حسن السلوك، ولم يكن المدرس الأول مدرساً له. طبعاً تم تقديم الاختبار بأدنى روح معنوية وبقلق شديد، فالشاب ذو الثمانية عشر عاماً، مهما فعل فلن يتخرّج هذا الفصل ويحصل على بعثة لأميركا، فثمن نجاحه، قطع المدرس الأول ليده!
عاد الطالب لبيته حزيناً، سأله والده عما قدمه بالاختبار من مستوى، أجاب الطالب بانكسار واستياء من المعلم وقوله «سأقص ايدي إذا نجحت».
المهم في الموضوع عندما ذهب الوالد غاضباً إلى إدارة المدرسة وبحضور الإدارة واستدعاء المدرس، قال الوالد للمدرس «إن المدرسة مكان تربية قبل أن تكون مكان تعليم، لذلك اسم الوزارة. وزارة التربية». طبعاً المدرس تحجج بأنه كان يمزح «لتلطيف الجو»!
ما أعاد هذه القصة إلى الذاكرة، ما قاله مدير إحدى المدارس في منطقة مشرف في لقاء تنويري مع أولياء أمور الفصل العاشر، من أن «دور المدرسة هو دور تربوي قبل أن يكون تعليمياً». هذه الجملة الواعية من مدير المدرسة، ذكرتني بالكلمة التي ظلت عالقة بذهني من أربعين سنة بأن دور المدرسة والوزارة والمدرسين دور تربوي، وليس تعليمياً فقط.
مع الثورة الصناعية في الغرب، أصبح التركيز بداية على تخريج صنّاع، ومهندسين، وحرفية، وأطباء، ثم إنهم أدركوا الخلل في التركيز فقط على العلوم البحتة، وما قد يُشكّل ذلك من خلل في بدن مخرجات التعليم، وما يتلقاه لاحقاً سوق العمل والمجتمع من جيل فني مدرب، لكن به فقر في العلوم الإنسانية والاجتماعية والحقوقية.
هناك خلل عندما يتخرّج متخصص بالكيمياء والفيزياء يعرف صناعة الديناميت وتقنية انشطار الذرة، ولا يعي الأبعاد القانونية والأخلاقية والاجتماعية لاستخدامها، يعرف صناعتها ولا يعرف عن التاريخ وما يُسجل من سُنن كونية نتيحة للبطش والعدوان على سبيل المثال.
نعم هناك خلل إذا كان هناك مخرجات تعليم كثيفة من الأطباء الجراحين مثلاً، من دون أن يكون لهم علم بالأبعاد الإنسانية والاجتماعية والنفسية والحقوقية للمراجعين والمرضى، هذا أدرك العالم المتطور تكنولوجيا بأن بجانب التعليم الجاف إن صح التعبير لا يطور المجتمع، بل قد يضره.
النقطة المهمة في الموضوع هو أن على وزارة التربية أن تولى اهتماماً خاصاً ومنهجياً بموضوع التربية قبل التعليم وبجانبه، ويكون ذلك بالتركيز على الجانب المانح والمعطي وهو المعلم، قبل المتلقي وهو التلميذ والطالب. يكون ذلك مسبقاً بالتنسيق مع الكليات والجامعات العامة منها والخاصة التي تقوم بتخريج المعلمين، بأن يكونوا مربين منهجيين، وليسوا فقط معلمي مناهج، ثم يكون ذلك بتكثيف المراقبة التربوية للوزارة مع التقييم، ليس فقط لكفاءة التعليم، بل أيضا لكفاءة إدارات المدارس وكوادرها في عملية التربية التي هي تتخطى بأشواط دور التعليم لوحده.
هنا الحديث ليس عن إهمال هذا الجانب، بل الحديث عن التركيز عليه، أي على الجانب التربوي بجانب التعليم.
إن مدير المدرسة الذي تكلّم عن أهمية التربية بجانب التعليم عكس بكلمته وعياً لافتا في الجهاز التربوي، وأطلق بكلمته الترحيبية والتنويرية جواً من الطمأنينة لأولياء الامور، ومثل هذا النموذج يجب أن يتم تفعيله بشكل عملي حتى تكون مخرجات التعليم مفعمة بالروح التربوية بجانب دورها التعليمي، وتكون تلك المهمة المتطورة تحت عين الوزارة بدءاً من التعاون مع الأكاديميات، إلى متابعة المعلمين المتدربين الميدانيين، إلى متابعة المعلمين والإدارات المدرسية.