... وللأقصى رب يحميه
قبر راحيل
الحرم الإبراهيمي
شهداء مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994
المسجد الأقصى وقبة الصخرة
|كتب عبدالله متولي|
قبل (1440) عاماً، وتحديداً في العام (570) الميلادي، أو قبله بعام أو عامين - حسب بعض الروايات - فيما عرف بـ «عام الفيل» نسبة إلى الحادثة التي وقعت في تلك السنة، عندما حاول أبرهة الحبشي، أو كما يعرف كذلك بأبرهة الأشرم، حاكم اليمن من قبل مملكة (أكسوم) الحبشية تدمير الكعبة ليجبر العرب وقريش على الذهاب إلى كنيسة (القليس) التي بناها وزينها في اليمن. ولكن العرب لم يهتموا بها بل وصل الأمر إلى أن أحد العرب أهانها ودخلها ليلاً وقضى حاجته فيها، ما أغضب أبرهة، فخرج بجيش عظيم ومعه فيلة كبيرة تتقدم الجيش لتدمير الكعبة وعندما اقترب من مكة المكرمة، وجد قطيعاً من النوق لعبدالمطلب سيد قريش فأخذها غصباً، فخرج عبدالمطلب، جدّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم طالباً منه أن يرد له نوقه ويترك الكعبة وشأنها، فرد أبرهة النوق لعبدالمطلب ولكنه رفض الرجوع عن مكة. وخرج أهل مكة هاربين إلى الجبال المحيطة بالكعبة خوفاً من أبرهة وجنوده، والأفيال التي هجم بها عليهم.
لكن عندما ذهب عبدالمطلب ليسترد نوقه سأله أبرهة: لماذا لا تدافعون عن الكعبة؟ فقال: «أما النوق فأنا ربها، وأما الكعبة فلها رب يحميها».
القصة يعرفها الجميع، وقد أنزل الله تعالى فيها قرآناً يُتلى في سورة (الفيل)...
لقد قفز إلى خاطري موقف عبدالمطلب سيد قريش من أبرهة الأشرم وما ينوي فعله تجاه الكعبة، وأنا أتابع ما فعلته إسرائيل من ضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال إلى التراث اليهودي، وتصورت أن حالنا كعرب ومسلمين لا يختلف كثيراً عن حال عبدالمطلب... وأصبحنا لا نملك من أمرنا إلا أن نقول كما قال: «...وللأقصى رب يحميه».
لكن الفرق بيننا وبين عبدالمطلب، أنه عندما قال قولته الشهيرة «وللبيت رب يحميه» انه كان يفتقد للقوة التي تؤهله لمواجهة وحشية أبرهة وجيشه الجرار... فاستقوى عليه بثقته في رب البيت، لأنه كان على يقين أنه لن يتخلى عن بيته ويتركه عرضة لطامع متهور.
أما نحن فما عذرنا في توفير الحماية للمسجد الأقصى والحفاظ عليه من الانتهاكات الصهيونية؟
أعتقد أن عبدالمطلب كان أحسن حالاً منا... فنحن نمتلك القوة، لكن لا نملك الشجاعة لاستخدامها، ونملك العقيدة التي لم تكن لعبدالمطلب، لكن لا نمتثل لتعاليمها... وحصرناها في الحجاب والنقاب، والاختلاط بين الجنسين، والمساواة بين الرجل والمرأة، وغيرها من الأمور التي لا نقلل من أهميتها للمسلم، لكن هناك ما هو أهم وأولى بتوحيد الصفوف وتجميع القوى، ونبذ الفرقة والاختلاف، حتى لا تتداعى علينا الأمم، وتستضعفنا كما هو حادث اليوم، لاننا أصبحنا كغثاء السيل...!
يعتبر إعلان إسرائيل ضم (الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال وقبر راحيل) إلى التراث اليهودي، جريمة لن تكون الأخيرة طالما ظل الصمت العربي والإسلامي سيد الموقف... ولأن حكومات الكيان الصهيوني عودتنا على مدار سنوات الاحتلال أن لها مع كل إشراقة شمس جريمة جديدة على مقدساتنا في أرض الرباط، وعدوان جديد على أهلنا في فلسطين المحتلة... حتى ألفنا سياسات الاستيطان، والاحتلال الذي ينعم بثمار عدوانه منذ ما يزيد على ستين عاماً.
منهجية التهويد
واستمراراً في مسلسل جرائم الصهيونية التي لا تنتهي تأتي الجريمة الأخيرة، في ضم الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال، وقبر راحيل، إلى التراث الصهيوني... هذه الجريمة التي تجعلنا نتساءل في كل يوم: على من يكون الدور اليوم؟ لقد أصبحنا جميعاً في مرمى أهداف العدو الصهيوني، كما ان هذه الجريمة التي نحن بصدد الحديث عنها ليست خطوة شاذة، في سياق منهج التهويد وإخفاء معالم الإسلام والعروبة عن أرضنا في فلسطين، والأمر لا مجال فيه للدهشة... فقد رأينا على مدار عقود هذا الواقع الإجرامي للكيان الصهيوني يتزايد ويتطور ويخطو خطوات مدروسة، وقفزات توعية في ظل أدبيات يهودية عنصرية مدمرة تستبيح كل ما هو عربي ومسلم... وإلا ما معنى ما أصدره الحاخام (مردخاي إلياهو) أكبر مرجعية للتيار الديني الصهيوني، من فتوى تبيح إبادة الشعب الفلسطيني بأكمله، امتثالاً للفريضة التوراتية القائلة: «اذكر عدوك وابده» مع الوضع في الاعتبار أن هذا الحاخام هو الأب الروحي لغالبية أفراد وقادة الجيش الإسرائيلي، وكذلك أجهزته الأمنية، وهكذا الأمر في الأجهزة الاستخباراتية، مثل جهاز الأمن العام (الشاباك)، والموساد، وحرس الحدود، وغيرها من الأجهزة التي لها - دائماً - اليد الطولى في تنفيذ المخططات الإجرامية للعدو الصهيوني.
إن فتوى الحاخام (مردخاي) ليست بدعاً، إنما هي - وان كانت حادة - جزء من ثقافة متجذرة لدى الكيان الصهيوني، فهناك فتوى تناولتها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلي بالنشر، وهي لعدد من حاخامات اليهود الذين أفتوا بأنه «يتوجب على اليهود تطبيق حكم التوراة الذي نزل في قوم عملاق على الفلسطينيين، وهو قتل الرجال والأطفال وحتى الرضع والنساء والعجائز، وحتى سحق البهائم».
وفي ذات السياق، قال الحاخام (شلوموا إلياهو): «المزامير تقول: سأواصل مطاردة أعدائي والقبض عليهم ولن أتوقف حتى القضاء عليهم»، أما الحاخام (آفي رونتسكي) فقد قال: «إن أحكام التوراة تبيح قصف البيوت الفلسطينية من الجو على من فيها، ولا يجب الاكتفاء بقصف مناطق إطلاق الصواريخ، فالواقع يلزم بضبط الناشطين وهم في فراشهم وفي بيوتهم».
عقيدة ووطنية
إن ما تقوم به إسرائيل من جرائم في حق القدس والأقصى وفلسطين وشعبها، لا تتوقف دوافعه عن حدود الاحتلال والاستيطان والقضاء على شعب بأكمله، وابتلاع دولة وإقامة دولتهم الكبرى (المزعومة)... ليست هذه هي حدود جرائمها... انما حدودها العقيدة التي يعتقدونها، ويؤمنون بها، ويرسخ مفاهيمها مجموعة من الحاخامات مسموعي الكلمة... هذه العقيدة هي التي جعلت الحكومة الإسرائيلية تقرر في جلستها الأسبوعية، قبل شهر تقريباً، ضم الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل وموقع مسجد بلال بن رباح وما يسمى بـ «قبر راحيل» في بيت لحم إلى قائمة المواقع الأثرية - التراثية التي خصصت لها 400 مليون شيكل (أكثر من مئة مليون دولار) بهدف صيانتها وترميمها.
وقالت مصادر إسرائيلية إن نتنياهو قرر ضم الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل إلى القائمة تحت ضغوط شديدة من وزراء حزب «شاس».
وافتتح نتنياهو جلسة حكومته في تل - حي في الجليل - بالقول إن «وجودنا كدولة ليس مرتبطاً بالجيش فقط أو بمناعتنا الاقتصادية، وإنما في تعزيز معرفتنا وشعورنا الوطني الذي سننقله للأجيال القادمة، وفي قدرتنا على تبرير ارتباطنا بالبلاد».
وتنص الخطة على صيانة وتطوير 150 موقعاً أثرياً لربطها «بمسار تاريخي توراتي» مشترك من شمال البلاد إلى جنوبها بغية تعريف الأجيال الناشئة بالتراث اليهودي والصهيوني.
وسارعت الأحزاب اليمينية والجماعات الاستيطانية إلى إبداء سرورها لشمل الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل لقائمة المواقع الأثرية الإسرائيلية. وقال رئيس المجلس الاقليمي للمستوطنين، داني ديان إن «القرار هو إنجاز مهم وتاريخي للشعب اليهودي».
وكان موقع عرب 48 قد نشر الاسبوع قبل الماضي ان الحكومة الإسرائيلية تعتزم اطلاق خطة خماسية لتهويد معالم أثرية في فلسطين، وترميم أخرى، واقامة مشاريع تراثية مرتبطة بالتاريخ والتراث اليهودي المزعوم، وهدف الحملة المعلن هو «توثيق العلاقة بين مواطني إسرائيل والشعب اليهودي في الشتات، وبين تراثه التاريخي والصهيوني في إسرائيل».
وتشمل الخطة إقامة نصب تذكارية، ومتاحف صغيرة ومسارات للمشاة، ومواقع أثرية وحدائق، ومراكز معلومات، وترميم مواقع قائمة.
وكان نتنياهو قد تحدث للمرة الأولى عن خطته تلك في كلمته في مؤتمر «هرتسليا للأمن والمناعة القومية» مطلع الشهر الماضي، وقال ان «ضمان وجودنا متعلق ليس فقط بمنظومات السلاح أو قوة الجيش أو قوة الاقتصاد أو بقدرتنا على التجديد، أو التصدير، وبكل مكامن القوى تلك التي تعتبر مهمة جداً، بل متعلقة قبل كل شيء بما نحمله من معرفة ومشاعر وطنية، والذي ننقله لأبنائنا، وفي جهازنا التعليمي».
وأعلن نتنياهو ان خطته تشمل ايضا اقامة دربين للمشاة، إلى جانب «درب إسرائيل» القائم، «درب تاريخية» تصل بين عشرات المواقع الأثرية، ودرب «المسيرة الإسرائيلية» الذي سيصل بين عشرات المحطات المتعلقة بتاريخ «الييشوف» اليهودي. كما تشمل الخطة تحويل مبان قائمة إلى مواقع أثرية، وإقامة مواقع توثق مسيرة الاستيطان، ومتاحف صغيرة ونصب تذكارية.
التاريخ المسلوب
أرأيتم... انها ليست قوة السلاح والعتاد والاقتصاد فحسب... إنما لا بد من تقوية المشاعر الوطنية عند الأبناء، وتبرير ارتباطهم بالبلاد... هذا كلام رئيس حكومة الكيان الصهيوني الذي يتكلم بلسان الحاخامات ورجال الدين اليهودي.
إذاً ضم الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال، وقبر راحيل، للتراث اليهودي ليس عملاً توسعياً فحسب، إنما عقيدة يؤمنون بها، ومشاعر وطنية يريدون تأجيجها في نفوس وقلوب الأبناء، حتى يكبروا ومعهم هذه المشاعر، حتى يستميتوا في الاحتفاظ بالتاريخ المسلوب، والدفاع عنه، وأن يكونوا مستعدين دائماً لابتكار جرائم متطورة ومتنوعة للتأكيد على أحقيتهم فيه، وإضافة المزيد إليه عبر السلب والنهب والإقصاء والتدمير، وهي وسائل وأساليب تجيدها، بل وتنفرد بها الصهيونية في كل مكان.
ذكرى المجزرة الأولى
وإمعاناً في تنفيذ الأيديولوجية الصهيونية وفق المخططات الموضوعة والمرسومة لتنفيذها سلفاً، قامت حكومة الكيان الصهيوني في ذكرى مجزرة الحرم الإبراهيمي الأولى، التي ارتكبها المجرم الصهيوني في الخامس والعشرين من شهر فبراير عام 1994، وراح ضحيتها ثلاثون من الركع السجود، مع خمسمئة جريح، وهذه المجزرة هي أخت سابقتها في (قبية) و(دير ياسين)، ولاحقاتها في (جنين) و(غزة) وما سيأتي بعد... في هذه الذكرى تأتي جريمة ضم الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال، في ظل الصمت الإسلامي، والتشرذم العربي، وإضاعة الجهد حول أمور هامشية وفرعية، يصل فيها الأمر إلى حد التوتر في العلاقات وتجميدها، حتى وصل الأمر إلى اتهام بعض أبناء الجسد العربي للبعض الآخر بالخيانة والعمالة، ووقوف البعض ضد مصلحة البعض الآخر، حتى ان علماء الأمة الذين يتحملون العبء الأكبر في مسألة الحفاظ على المقدسات وحمايتها، اختلفوا في ما بينهم، وارتفعت أصواتهم في مواجهة بعضهم، وهاجم كل منهم من يختلف معه، واستنزفتهم الصغائر، وتنازلوا عن قيادة الناس وتوحيدهم على كلمة سواء، وشحذ هممهم للتصدي لقضايا أمتهم... ومنها قضية تهويد القدس، وتدمير الأقصى، واغتيال هوية الشعب الفلسطيني... وهذه مصيبة ما بعدها مصيبة، أن تفقد الأمة الإسلامية حملة المشاعل لإنارة دروبها وهم علماء الأمة.
هذا في ظل انشغال الساسة والأنظمة بقضايا أخرى، وتعاملهم مع قضية فلسطين والأقصى، في نطاق القرارات والمواءمات والتوازنات، سواء على الصعيد الدولي أو على صعيد الصراع (العربي - الإسرائيلي).
شجب واستنكار
وفي ظل هذه الحالة من التردي والوهن وعدم القدرة على تجميع القوى، لم يبق لنا إلا بيانات الشجب والاستنكار التي هي من قبيل «إدانة الهجمات الوحشية واستنكار الانتهاكات الخطيرة التي تقوم بها إسرائيل وقوات الاحتلال ضد المسجد الأقصى والشعب الفلسطيني.
واعتبر البيان ان ما حدث اجراء خطير ومكشوف في اطار المحاولات الإسرائيلية المستمرة لتهويد القدس، ودعا البيان المجتمع الدولي إلى القيام بواجباته في حماية الهوية الثقافية للأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس، مؤكداً ان استمرار الاعتداءات على المقدسات وتزوير التاريخ وسرقته يشكل تمادياً في تحدي المجتمع الدولي، وتحدياً لمشاعر المسلمين والمسيحيين في المنطقة والعالم، وتقويضا للجهود الدولية لاستئناف عملية السلام وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة»، هذا نموذج لما تصدر الأنظمة والحكومات والدول العربية من بيانات الشجب والاستنكار لما تقوم به إسرائيل من جرائم وانتهاكات... إسرائيل تقتل... تدمر... تنتهك... تغتصب... تسلب، ونحن نشجب ونستنكر... لكن اللافت للنظر ان جميع بيانات الشجب والاستنكار التي تصدر عن الأنظمة والهيئات والمؤسسات العربية لا تخلو من أمر مهم وهو: دعوة المجتمع الدولي إلى القيام بواجباته تجاه ما ترتكبه إسرائيل من جرائم وانتهاكات.
والغريب في الأمر وما يصعب استيعابه أو فهمه هو اننا جميعا نعلم أن المجتمع الدولي لن يقوم بواجباته - إن كان عليه واجبات - في مواجهة إسرائيل، لأن القوى المؤثرة في المجتمع الدولي والتي تقود القطيع، هي نفسها التي صنعت الكيان الصهيوني، وساعدته على اقامة دولته في قلب العالم العربي، لتحقق هذه الدولة مصالحها في هذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة لجميع دول العالم، سواء من الناحية الجغرافية، أو الاقتصادية أو غيرها مما يعرفه الجميع.
وهذه حقائق مسلم بها، فلماذا دائماً نطالب المجتمع الدولي القيام بواجباته؟! وعموما، فأياً كان نوع البيانات (شجب أو استنكار أو ادانة) فإنها لا تتعدى عن كونها بيانات وكلاما لا يقدم ولا يؤخر.
العجز المخزي
لكن بعد قراءة جملة من بيانات الشجب والاستنكار التي صدرت عن معظم الدول العربية، وبعض الهيئات السياسية، وكذلك الأشخاص من ذوي المسؤولية، فقد استوقفني ما جاء على لسان أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، الذي اعتبر ما يجري في القدس «إهانة للسياسة العربية»، وقال: «إن إسرائيل تقول لنا كعرب اقبلوا ما نفعل وأرجلكم فوق رقابكم».
هذا ما جاء على لسان المنسق العام للسياسة العربية، وهو سياسي قديم وكبير، وله باع طويل في التعامل مع إسرائيل وفهم الاستراتيجيات والخطط التي تسعى لتحويلها إلى واقع على الأرض.
إن ما قاله عمرو موسى ليس إلا تعبير عن حالة الضعف العربي، والعجز المخزي أمام الانتهاكات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية.
وما دمنا كأمة إسلامية تجاوز عددها المليار ومئتي مليون مسلم لا نستطيع أن نتخذ موقفاً حازماً في مواجهة ما تقوم به إسرائيل، ومادمنا غير قادرين على التأثير في القرار الدولي واجبار إسرائيل على تنفيذه، ومادمنا غير قادرين على أن نتوحد حول قضايانا، ونضع خلافاتنا جانباً، ومادمنا نتشبث بمصالحنا الشخصية على حساب المصلحة العامة، ومادمنا لا نتخذ من عقيدتنا منهجا ومنطلقاً للدفاع عن مقدساتنا، وتهاوناً في حمايتها والحفاظ عليها، فلا نملك إلا أن نقول: «... وللأقصى رب يحميه»!
القدس قدسي
أثارت مأساة القدس حفيظة الشعراء على مدار سنوات الاحتلال والمعاناة، ونسجت مئات القصائد في شتى فنون الشعر، ومنها ماكتب بالفصحى، ومنها ما كتب بالعامية. وبعد جولة طويلة بين ما قيل شعراً عن القدس، أجد ان قصيدة الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي (القدس قدسي) هي اصدق تعبير عما نحن بصدده الآن، وسنعرض لبعض من أبيات هذه القصيدة الرائعة التي يقول الشاعر في مطلعها:
القدس قدسي... يمامة صيف... في غيتها
تطير... تجيني... بأشواقها... وغيتها
فاكراني... من يد صيادها... أنا اغيتها
فاكراني صوت الأدان الحىّ في (حطين)
ومخبى في ضلوعي قلبك يا (صلاح الدين)
شايل صراخ اليتامى ولوعة المساكين
فاكراني كفن الشهيد وخيمة اللاجئين
وأول الأتقيا.. وآخر الهاربين.
ويواصل الشاعر التعبير عن العجز العربي وأنه السبب في ما وصلت اليه القضية الآن، وأن بكاء القدس واستغاثتها لن تجدي نفعاً، فيقول:
تبكي وفاكره حاهدهدها واسكتها
أنا ياللي من موت شراييني اتنسج موتها
وصوتي يوم الغنا الباطل بلغ صوتها
ما فيش في قلبي ولا آهة... أموتها
كل الآهات ميتة... أنا حبيس همسي
نزعت صورتها من بُكرايا... من أمسي
حطين... لا حطيني... ولا قدس الهموم قدسي
ولا عارفة تنساني زي ما تهت ونسيتها
ثم يطالب اليمامة (القدس) بالعودة إلى حضن العدو، وأخذ الحيطة والحذر من العدو القريب، فيقول:
يا قدس لمي جناحك وارجعي تاني
لا تصدقي قولي ولا تئتمني احضاني
نامي في حضن العدو... هو العدو الأول
يا قدس خافي قوي من العدو التاني
الخنجر المختفي وانتي فاكراه ضلع
الأفعى ورا ضحكتي والموت في أسناني
وصفحتي في النضال بيضا بياض التلج
يا قدس قولي لحيطانك إثبتي بقوة
حيخلصك ابنك اللي أنا ما نيش هوه
لاتبحثي عن حلول... الحل من جوه
ينتقل الشاعر بعد ذلك للتأكيد على ان المأساة رغم عظمها
الا ان الكل قد تخلى عنها، وأصبحت مجرد تسلية للأمة،
فيقول:
الفجر صعب المراس يا قبضة الخيال
يا ثورة لا ليها عم... ولا أخوة... ولا خال
قدرك وطن يشتري الوطنية بالأموال
وانا قدري أحلم بصوتك... وبدوام دمك
وبيوم يملوا الكبار الفرجة ع الأطفال
أنا حلو في الشاشة في الجورنان لكن ظلي
تقيل... يا أمة بمأساتي... بتتسلي
للسادة شاي سادة وانا دمي اللي بيحلي
وكل يوم قطرة قطرة الدم بيسرسب
مستني إيه يا وطن؟ لما أغيب كلي؟
ويختم الشاعر قصيدته الرائعة بأنه على اتصال بها
ديناً وعروبة، طالباً منها السماح عن عجزه في اغاثتها،
فيقول:
يا قدس يامّ الشهيد في العتمة عانقيني
أنا متصل بيكي من وطني ومن ديني
يا مسجد الأقصى أقصى ما في الدموع عيني
وأقصى ما في وريدي الدم بعد الهم
وإخواتي مش هنا... يا قدس سامحيني
قبل (1440) عاماً، وتحديداً في العام (570) الميلادي، أو قبله بعام أو عامين - حسب بعض الروايات - فيما عرف بـ «عام الفيل» نسبة إلى الحادثة التي وقعت في تلك السنة، عندما حاول أبرهة الحبشي، أو كما يعرف كذلك بأبرهة الأشرم، حاكم اليمن من قبل مملكة (أكسوم) الحبشية تدمير الكعبة ليجبر العرب وقريش على الذهاب إلى كنيسة (القليس) التي بناها وزينها في اليمن. ولكن العرب لم يهتموا بها بل وصل الأمر إلى أن أحد العرب أهانها ودخلها ليلاً وقضى حاجته فيها، ما أغضب أبرهة، فخرج بجيش عظيم ومعه فيلة كبيرة تتقدم الجيش لتدمير الكعبة وعندما اقترب من مكة المكرمة، وجد قطيعاً من النوق لعبدالمطلب سيد قريش فأخذها غصباً، فخرج عبدالمطلب، جدّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم طالباً منه أن يرد له نوقه ويترك الكعبة وشأنها، فرد أبرهة النوق لعبدالمطلب ولكنه رفض الرجوع عن مكة. وخرج أهل مكة هاربين إلى الجبال المحيطة بالكعبة خوفاً من أبرهة وجنوده، والأفيال التي هجم بها عليهم.
لكن عندما ذهب عبدالمطلب ليسترد نوقه سأله أبرهة: لماذا لا تدافعون عن الكعبة؟ فقال: «أما النوق فأنا ربها، وأما الكعبة فلها رب يحميها».
القصة يعرفها الجميع، وقد أنزل الله تعالى فيها قرآناً يُتلى في سورة (الفيل)...
لقد قفز إلى خاطري موقف عبدالمطلب سيد قريش من أبرهة الأشرم وما ينوي فعله تجاه الكعبة، وأنا أتابع ما فعلته إسرائيل من ضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال إلى التراث اليهودي، وتصورت أن حالنا كعرب ومسلمين لا يختلف كثيراً عن حال عبدالمطلب... وأصبحنا لا نملك من أمرنا إلا أن نقول كما قال: «...وللأقصى رب يحميه».
لكن الفرق بيننا وبين عبدالمطلب، أنه عندما قال قولته الشهيرة «وللبيت رب يحميه» انه كان يفتقد للقوة التي تؤهله لمواجهة وحشية أبرهة وجيشه الجرار... فاستقوى عليه بثقته في رب البيت، لأنه كان على يقين أنه لن يتخلى عن بيته ويتركه عرضة لطامع متهور.
أما نحن فما عذرنا في توفير الحماية للمسجد الأقصى والحفاظ عليه من الانتهاكات الصهيونية؟
أعتقد أن عبدالمطلب كان أحسن حالاً منا... فنحن نمتلك القوة، لكن لا نملك الشجاعة لاستخدامها، ونملك العقيدة التي لم تكن لعبدالمطلب، لكن لا نمتثل لتعاليمها... وحصرناها في الحجاب والنقاب، والاختلاط بين الجنسين، والمساواة بين الرجل والمرأة، وغيرها من الأمور التي لا نقلل من أهميتها للمسلم، لكن هناك ما هو أهم وأولى بتوحيد الصفوف وتجميع القوى، ونبذ الفرقة والاختلاف، حتى لا تتداعى علينا الأمم، وتستضعفنا كما هو حادث اليوم، لاننا أصبحنا كغثاء السيل...!
يعتبر إعلان إسرائيل ضم (الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال وقبر راحيل) إلى التراث اليهودي، جريمة لن تكون الأخيرة طالما ظل الصمت العربي والإسلامي سيد الموقف... ولأن حكومات الكيان الصهيوني عودتنا على مدار سنوات الاحتلال أن لها مع كل إشراقة شمس جريمة جديدة على مقدساتنا في أرض الرباط، وعدوان جديد على أهلنا في فلسطين المحتلة... حتى ألفنا سياسات الاستيطان، والاحتلال الذي ينعم بثمار عدوانه منذ ما يزيد على ستين عاماً.
منهجية التهويد
واستمراراً في مسلسل جرائم الصهيونية التي لا تنتهي تأتي الجريمة الأخيرة، في ضم الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال، وقبر راحيل، إلى التراث الصهيوني... هذه الجريمة التي تجعلنا نتساءل في كل يوم: على من يكون الدور اليوم؟ لقد أصبحنا جميعاً في مرمى أهداف العدو الصهيوني، كما ان هذه الجريمة التي نحن بصدد الحديث عنها ليست خطوة شاذة، في سياق منهج التهويد وإخفاء معالم الإسلام والعروبة عن أرضنا في فلسطين، والأمر لا مجال فيه للدهشة... فقد رأينا على مدار عقود هذا الواقع الإجرامي للكيان الصهيوني يتزايد ويتطور ويخطو خطوات مدروسة، وقفزات توعية في ظل أدبيات يهودية عنصرية مدمرة تستبيح كل ما هو عربي ومسلم... وإلا ما معنى ما أصدره الحاخام (مردخاي إلياهو) أكبر مرجعية للتيار الديني الصهيوني، من فتوى تبيح إبادة الشعب الفلسطيني بأكمله، امتثالاً للفريضة التوراتية القائلة: «اذكر عدوك وابده» مع الوضع في الاعتبار أن هذا الحاخام هو الأب الروحي لغالبية أفراد وقادة الجيش الإسرائيلي، وكذلك أجهزته الأمنية، وهكذا الأمر في الأجهزة الاستخباراتية، مثل جهاز الأمن العام (الشاباك)، والموساد، وحرس الحدود، وغيرها من الأجهزة التي لها - دائماً - اليد الطولى في تنفيذ المخططات الإجرامية للعدو الصهيوني.
إن فتوى الحاخام (مردخاي) ليست بدعاً، إنما هي - وان كانت حادة - جزء من ثقافة متجذرة لدى الكيان الصهيوني، فهناك فتوى تناولتها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلي بالنشر، وهي لعدد من حاخامات اليهود الذين أفتوا بأنه «يتوجب على اليهود تطبيق حكم التوراة الذي نزل في قوم عملاق على الفلسطينيين، وهو قتل الرجال والأطفال وحتى الرضع والنساء والعجائز، وحتى سحق البهائم».
وفي ذات السياق، قال الحاخام (شلوموا إلياهو): «المزامير تقول: سأواصل مطاردة أعدائي والقبض عليهم ولن أتوقف حتى القضاء عليهم»، أما الحاخام (آفي رونتسكي) فقد قال: «إن أحكام التوراة تبيح قصف البيوت الفلسطينية من الجو على من فيها، ولا يجب الاكتفاء بقصف مناطق إطلاق الصواريخ، فالواقع يلزم بضبط الناشطين وهم في فراشهم وفي بيوتهم».
عقيدة ووطنية
إن ما تقوم به إسرائيل من جرائم في حق القدس والأقصى وفلسطين وشعبها، لا تتوقف دوافعه عن حدود الاحتلال والاستيطان والقضاء على شعب بأكمله، وابتلاع دولة وإقامة دولتهم الكبرى (المزعومة)... ليست هذه هي حدود جرائمها... انما حدودها العقيدة التي يعتقدونها، ويؤمنون بها، ويرسخ مفاهيمها مجموعة من الحاخامات مسموعي الكلمة... هذه العقيدة هي التي جعلت الحكومة الإسرائيلية تقرر في جلستها الأسبوعية، قبل شهر تقريباً، ضم الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل وموقع مسجد بلال بن رباح وما يسمى بـ «قبر راحيل» في بيت لحم إلى قائمة المواقع الأثرية - التراثية التي خصصت لها 400 مليون شيكل (أكثر من مئة مليون دولار) بهدف صيانتها وترميمها.
وقالت مصادر إسرائيلية إن نتنياهو قرر ضم الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل إلى القائمة تحت ضغوط شديدة من وزراء حزب «شاس».
وافتتح نتنياهو جلسة حكومته في تل - حي في الجليل - بالقول إن «وجودنا كدولة ليس مرتبطاً بالجيش فقط أو بمناعتنا الاقتصادية، وإنما في تعزيز معرفتنا وشعورنا الوطني الذي سننقله للأجيال القادمة، وفي قدرتنا على تبرير ارتباطنا بالبلاد».
وتنص الخطة على صيانة وتطوير 150 موقعاً أثرياً لربطها «بمسار تاريخي توراتي» مشترك من شمال البلاد إلى جنوبها بغية تعريف الأجيال الناشئة بالتراث اليهودي والصهيوني.
وسارعت الأحزاب اليمينية والجماعات الاستيطانية إلى إبداء سرورها لشمل الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل لقائمة المواقع الأثرية الإسرائيلية. وقال رئيس المجلس الاقليمي للمستوطنين، داني ديان إن «القرار هو إنجاز مهم وتاريخي للشعب اليهودي».
وكان موقع عرب 48 قد نشر الاسبوع قبل الماضي ان الحكومة الإسرائيلية تعتزم اطلاق خطة خماسية لتهويد معالم أثرية في فلسطين، وترميم أخرى، واقامة مشاريع تراثية مرتبطة بالتاريخ والتراث اليهودي المزعوم، وهدف الحملة المعلن هو «توثيق العلاقة بين مواطني إسرائيل والشعب اليهودي في الشتات، وبين تراثه التاريخي والصهيوني في إسرائيل».
وتشمل الخطة إقامة نصب تذكارية، ومتاحف صغيرة ومسارات للمشاة، ومواقع أثرية وحدائق، ومراكز معلومات، وترميم مواقع قائمة.
وكان نتنياهو قد تحدث للمرة الأولى عن خطته تلك في كلمته في مؤتمر «هرتسليا للأمن والمناعة القومية» مطلع الشهر الماضي، وقال ان «ضمان وجودنا متعلق ليس فقط بمنظومات السلاح أو قوة الجيش أو قوة الاقتصاد أو بقدرتنا على التجديد، أو التصدير، وبكل مكامن القوى تلك التي تعتبر مهمة جداً، بل متعلقة قبل كل شيء بما نحمله من معرفة ومشاعر وطنية، والذي ننقله لأبنائنا، وفي جهازنا التعليمي».
وأعلن نتنياهو ان خطته تشمل ايضا اقامة دربين للمشاة، إلى جانب «درب إسرائيل» القائم، «درب تاريخية» تصل بين عشرات المواقع الأثرية، ودرب «المسيرة الإسرائيلية» الذي سيصل بين عشرات المحطات المتعلقة بتاريخ «الييشوف» اليهودي. كما تشمل الخطة تحويل مبان قائمة إلى مواقع أثرية، وإقامة مواقع توثق مسيرة الاستيطان، ومتاحف صغيرة ونصب تذكارية.
التاريخ المسلوب
أرأيتم... انها ليست قوة السلاح والعتاد والاقتصاد فحسب... إنما لا بد من تقوية المشاعر الوطنية عند الأبناء، وتبرير ارتباطهم بالبلاد... هذا كلام رئيس حكومة الكيان الصهيوني الذي يتكلم بلسان الحاخامات ورجال الدين اليهودي.
إذاً ضم الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال، وقبر راحيل، للتراث اليهودي ليس عملاً توسعياً فحسب، إنما عقيدة يؤمنون بها، ومشاعر وطنية يريدون تأجيجها في نفوس وقلوب الأبناء، حتى يكبروا ومعهم هذه المشاعر، حتى يستميتوا في الاحتفاظ بالتاريخ المسلوب، والدفاع عنه، وأن يكونوا مستعدين دائماً لابتكار جرائم متطورة ومتنوعة للتأكيد على أحقيتهم فيه، وإضافة المزيد إليه عبر السلب والنهب والإقصاء والتدمير، وهي وسائل وأساليب تجيدها، بل وتنفرد بها الصهيونية في كل مكان.
ذكرى المجزرة الأولى
وإمعاناً في تنفيذ الأيديولوجية الصهيونية وفق المخططات الموضوعة والمرسومة لتنفيذها سلفاً، قامت حكومة الكيان الصهيوني في ذكرى مجزرة الحرم الإبراهيمي الأولى، التي ارتكبها المجرم الصهيوني في الخامس والعشرين من شهر فبراير عام 1994، وراح ضحيتها ثلاثون من الركع السجود، مع خمسمئة جريح، وهذه المجزرة هي أخت سابقتها في (قبية) و(دير ياسين)، ولاحقاتها في (جنين) و(غزة) وما سيأتي بعد... في هذه الذكرى تأتي جريمة ضم الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال، في ظل الصمت الإسلامي، والتشرذم العربي، وإضاعة الجهد حول أمور هامشية وفرعية، يصل فيها الأمر إلى حد التوتر في العلاقات وتجميدها، حتى وصل الأمر إلى اتهام بعض أبناء الجسد العربي للبعض الآخر بالخيانة والعمالة، ووقوف البعض ضد مصلحة البعض الآخر، حتى ان علماء الأمة الذين يتحملون العبء الأكبر في مسألة الحفاظ على المقدسات وحمايتها، اختلفوا في ما بينهم، وارتفعت أصواتهم في مواجهة بعضهم، وهاجم كل منهم من يختلف معه، واستنزفتهم الصغائر، وتنازلوا عن قيادة الناس وتوحيدهم على كلمة سواء، وشحذ هممهم للتصدي لقضايا أمتهم... ومنها قضية تهويد القدس، وتدمير الأقصى، واغتيال هوية الشعب الفلسطيني... وهذه مصيبة ما بعدها مصيبة، أن تفقد الأمة الإسلامية حملة المشاعل لإنارة دروبها وهم علماء الأمة.
هذا في ظل انشغال الساسة والأنظمة بقضايا أخرى، وتعاملهم مع قضية فلسطين والأقصى، في نطاق القرارات والمواءمات والتوازنات، سواء على الصعيد الدولي أو على صعيد الصراع (العربي - الإسرائيلي).
شجب واستنكار
وفي ظل هذه الحالة من التردي والوهن وعدم القدرة على تجميع القوى، لم يبق لنا إلا بيانات الشجب والاستنكار التي هي من قبيل «إدانة الهجمات الوحشية واستنكار الانتهاكات الخطيرة التي تقوم بها إسرائيل وقوات الاحتلال ضد المسجد الأقصى والشعب الفلسطيني.
واعتبر البيان ان ما حدث اجراء خطير ومكشوف في اطار المحاولات الإسرائيلية المستمرة لتهويد القدس، ودعا البيان المجتمع الدولي إلى القيام بواجباته في حماية الهوية الثقافية للأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس، مؤكداً ان استمرار الاعتداءات على المقدسات وتزوير التاريخ وسرقته يشكل تمادياً في تحدي المجتمع الدولي، وتحدياً لمشاعر المسلمين والمسيحيين في المنطقة والعالم، وتقويضا للجهود الدولية لاستئناف عملية السلام وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة»، هذا نموذج لما تصدر الأنظمة والحكومات والدول العربية من بيانات الشجب والاستنكار لما تقوم به إسرائيل من جرائم وانتهاكات... إسرائيل تقتل... تدمر... تنتهك... تغتصب... تسلب، ونحن نشجب ونستنكر... لكن اللافت للنظر ان جميع بيانات الشجب والاستنكار التي تصدر عن الأنظمة والهيئات والمؤسسات العربية لا تخلو من أمر مهم وهو: دعوة المجتمع الدولي إلى القيام بواجباته تجاه ما ترتكبه إسرائيل من جرائم وانتهاكات.
والغريب في الأمر وما يصعب استيعابه أو فهمه هو اننا جميعا نعلم أن المجتمع الدولي لن يقوم بواجباته - إن كان عليه واجبات - في مواجهة إسرائيل، لأن القوى المؤثرة في المجتمع الدولي والتي تقود القطيع، هي نفسها التي صنعت الكيان الصهيوني، وساعدته على اقامة دولته في قلب العالم العربي، لتحقق هذه الدولة مصالحها في هذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة لجميع دول العالم، سواء من الناحية الجغرافية، أو الاقتصادية أو غيرها مما يعرفه الجميع.
وهذه حقائق مسلم بها، فلماذا دائماً نطالب المجتمع الدولي القيام بواجباته؟! وعموما، فأياً كان نوع البيانات (شجب أو استنكار أو ادانة) فإنها لا تتعدى عن كونها بيانات وكلاما لا يقدم ولا يؤخر.
العجز المخزي
لكن بعد قراءة جملة من بيانات الشجب والاستنكار التي صدرت عن معظم الدول العربية، وبعض الهيئات السياسية، وكذلك الأشخاص من ذوي المسؤولية، فقد استوقفني ما جاء على لسان أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، الذي اعتبر ما يجري في القدس «إهانة للسياسة العربية»، وقال: «إن إسرائيل تقول لنا كعرب اقبلوا ما نفعل وأرجلكم فوق رقابكم».
هذا ما جاء على لسان المنسق العام للسياسة العربية، وهو سياسي قديم وكبير، وله باع طويل في التعامل مع إسرائيل وفهم الاستراتيجيات والخطط التي تسعى لتحويلها إلى واقع على الأرض.
إن ما قاله عمرو موسى ليس إلا تعبير عن حالة الضعف العربي، والعجز المخزي أمام الانتهاكات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية.
وما دمنا كأمة إسلامية تجاوز عددها المليار ومئتي مليون مسلم لا نستطيع أن نتخذ موقفاً حازماً في مواجهة ما تقوم به إسرائيل، ومادمنا غير قادرين على التأثير في القرار الدولي واجبار إسرائيل على تنفيذه، ومادمنا غير قادرين على أن نتوحد حول قضايانا، ونضع خلافاتنا جانباً، ومادمنا نتشبث بمصالحنا الشخصية على حساب المصلحة العامة، ومادمنا لا نتخذ من عقيدتنا منهجا ومنطلقاً للدفاع عن مقدساتنا، وتهاوناً في حمايتها والحفاظ عليها، فلا نملك إلا أن نقول: «... وللأقصى رب يحميه»!
القدس قدسي
أثارت مأساة القدس حفيظة الشعراء على مدار سنوات الاحتلال والمعاناة، ونسجت مئات القصائد في شتى فنون الشعر، ومنها ماكتب بالفصحى، ومنها ما كتب بالعامية. وبعد جولة طويلة بين ما قيل شعراً عن القدس، أجد ان قصيدة الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي (القدس قدسي) هي اصدق تعبير عما نحن بصدده الآن، وسنعرض لبعض من أبيات هذه القصيدة الرائعة التي يقول الشاعر في مطلعها:
القدس قدسي... يمامة صيف... في غيتها
تطير... تجيني... بأشواقها... وغيتها
فاكراني... من يد صيادها... أنا اغيتها
فاكراني صوت الأدان الحىّ في (حطين)
ومخبى في ضلوعي قلبك يا (صلاح الدين)
شايل صراخ اليتامى ولوعة المساكين
فاكراني كفن الشهيد وخيمة اللاجئين
وأول الأتقيا.. وآخر الهاربين.
ويواصل الشاعر التعبير عن العجز العربي وأنه السبب في ما وصلت اليه القضية الآن، وأن بكاء القدس واستغاثتها لن تجدي نفعاً، فيقول:
تبكي وفاكره حاهدهدها واسكتها
أنا ياللي من موت شراييني اتنسج موتها
وصوتي يوم الغنا الباطل بلغ صوتها
ما فيش في قلبي ولا آهة... أموتها
كل الآهات ميتة... أنا حبيس همسي
نزعت صورتها من بُكرايا... من أمسي
حطين... لا حطيني... ولا قدس الهموم قدسي
ولا عارفة تنساني زي ما تهت ونسيتها
ثم يطالب اليمامة (القدس) بالعودة إلى حضن العدو، وأخذ الحيطة والحذر من العدو القريب، فيقول:
يا قدس لمي جناحك وارجعي تاني
لا تصدقي قولي ولا تئتمني احضاني
نامي في حضن العدو... هو العدو الأول
يا قدس خافي قوي من العدو التاني
الخنجر المختفي وانتي فاكراه ضلع
الأفعى ورا ضحكتي والموت في أسناني
وصفحتي في النضال بيضا بياض التلج
يا قدس قولي لحيطانك إثبتي بقوة
حيخلصك ابنك اللي أنا ما نيش هوه
لاتبحثي عن حلول... الحل من جوه
ينتقل الشاعر بعد ذلك للتأكيد على ان المأساة رغم عظمها
الا ان الكل قد تخلى عنها، وأصبحت مجرد تسلية للأمة،
فيقول:
الفجر صعب المراس يا قبضة الخيال
يا ثورة لا ليها عم... ولا أخوة... ولا خال
قدرك وطن يشتري الوطنية بالأموال
وانا قدري أحلم بصوتك... وبدوام دمك
وبيوم يملوا الكبار الفرجة ع الأطفال
أنا حلو في الشاشة في الجورنان لكن ظلي
تقيل... يا أمة بمأساتي... بتتسلي
للسادة شاي سادة وانا دمي اللي بيحلي
وكل يوم قطرة قطرة الدم بيسرسب
مستني إيه يا وطن؟ لما أغيب كلي؟
ويختم الشاعر قصيدته الرائعة بأنه على اتصال بها
ديناً وعروبة، طالباً منها السماح عن عجزه في اغاثتها،
فيقول:
يا قدس يامّ الشهيد في العتمة عانقيني
أنا متصل بيكي من وطني ومن ديني
يا مسجد الأقصى أقصى ما في الدموع عيني
وأقصى ما في وريدي الدم بعد الهم
وإخواتي مش هنا... يا قدس سامحيني