مرثية الرندي من الأندلس إلى غزة

تصغير
تكبير

استسلم ملك غرناطة أبوعبدالله محمد الثاني عشر بعد معركة غرناطة سنة 1491 بموجب معاهدة أُبرمت مع الملكة إيزابيلا ملكة قشتالة، والتي تضمّنت أكثر من 50 مادة، معظمها يمنح المسلمين وأميرهم، ضمانات بعدم المساس بدينهم وأملاكهم، والحفاظ على مساجدهم وطقوسهم الدينية، وأحكامهم الشرعية في الميراث والزواج والطلاق.

وبموجب المادة الخامسة، باستثناء الذخيرة الحربية، لا يحق لسلطة الملكة الاستيلاء على أسلحة المسلمين الأخرى. أما المادة 14، فنصّت على معاملة الملك أبي عبدالله ورعاياه معاملة شريفة، وتعهدت الملكة بحق المسلمين في المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم وحقوقهم.

وجاءت المادة 20 لتمنح المسلمين حرية التصرف في أموال صدقاتهم وتبرعاتهم ومساجدهم، فيما نصّت المادة 32 على أنه لا يجوز إرغام أي مسلم أو مسلمة على اعتناق النصرانية.

غادر الملك المسلم غرناطة ومعه أهله وخدمه وحشمه وآلاف من أتباعه إلى بلاد المغرب، تاركاً خلفه بقية المسلمين الذين تمسكوا بأرضهم واختاروا الحياة بموجب تعهدات الملكة إيزابيلا. لكن في عام 1499 بدأ أساقفة إيزابيلا الكاثوليك، التحرك ضد المسلمين بفرض الالتزام الديني المسيحي، فرفض المسلمون ذلك وثاروا ضد الانتهاكات، مما أوجد للملكة المتعصبة مبرراً لقمعهم وتصفيتهم في إبادة جماعية مأسوية قُتل فيها الآلاف.

بعد ذلك، أصدرت الملكة مرسوماً يحظر الدين الإسلامي، وفرضت محاكم التفتيش على المسلمين واليهود. وكان عدد المسلمين آنذاك يُقارب 600 ألف نسمة، لكن لم يبقَ منهم أحد؛ إذ قُتلوا أو هُجّروا أو أُرغموا على اعتناق المسيحية. أما اليهود، فقد هُجّر منهم نحو 100 ألف، بموجب ما عُرف بمرسوم الطرد.

والسؤال: كيف استطاعت الملكة إيزابيلا، وهي على رأس مملكة صغيرة وفي ظل خلافات داخلية في مقابل أمة الإسلام، أن تنكث بوعودها وبالمعاهدة التي وقعتها مع ملك المسلمين؟

الجواب سهل جداً... ففي السياسة لا احترام للضعيف. ومن أهم أسباب الضعف: الخلافات، والثقة بالخصم، وقبل كل ذلك الخيانة والجبن.

لقد انشغل أمراء الأندلس بحروبهم الداخلية، حتى بلغ الاحتراب بيت الحكم في غرناطة ذاتها، إذ دب الخلاف بين أبي عبدالله وأبيه وعمه، فسال الدم بينهم كفيض الروافد، في وقت كان العدو يتربص بهم ويتحد ضدهم كاتحاد التوائم.

ومما يُخفى ولا يُحكى، أنه إلى جانب معاهدة غرناطة المعروفة، وقّع خليفة المسلمين في غرناطة أبوعبدالله معاهدة سرية مع الملكة وزوجها فرناندو الثاني، تضمن صون ممتلكاته مقابل مبلغ كبير (30 ألف قطعة ذهبية)، وتأمين خروجه إلى مدينة فاس المغربية.

ثم سلّم مفتاح غرناطة لهما باحتفال رسمي مهين وغادر إلى فاس.

وقبل ذلك، وخلال الحوار بين وجهاء غرناطة حول المعاهدة، ارتفع صوت معارض تمثّل في مَنْ لُقّب بفارس غرناطة، وهو موسى بن أبي الغسان، الذي رفض الاتفاق مع الملكة ودعا إلى المواجهة، فلم يُصغِ إليه أحد، فخرج يقاتل وحده، حتى استشهد.

ومن بين ما ينبغي ذكره في هذه المقاربة التاريخية، أن المسلمين في غرناطة - وهم تحت الحصار والتجويع - قد استنجدوا بنظرائهم من أمة الإسلام، وعلى رأسهم الخليفة العثماني بايزيد الثاني «المتصوف»، الذي لم يصدر عنه سوى إرسال بعض السفن لنقل المسلمين من الأندلس إلى المغرب، مع عبارات الشجب والاستنكار، ودعوة المسلمين للدعاء لهم بالثبات والنصر.

أما الخليفة المملوكي، فكان منشغلًا بصراعه مع العثمانيين والبرتغاليين، ولم يكن ما يحدث في الأندلس في دائرة اهتمامه. وأما القاجاريون فقد كانوا مشغولين بتعزيز حكمهم ومواجهة العثمانيين، ولم يعيروا أي اهتمام لما حلّ بحكم المسلمين في الأندلس.

ومن المفارقات التاريخية، ان الإنكليز الذين خلفوا الإسبان في السيطرة على الأراضي الإسلامية نجحوا في إسقاط خلفاء الدولة العثمانية، والقاجارية، وحكم المسلمين في الهند، فبكى خلفاؤهم على أطلالهم كما بكى أبوعبدالله حاكم غرناطة.

ما أشبه اليوم بالبارحة؛ فاليوم، يطالب البعض الغزّاوين بالرحيل عن أرضهم والاستسلام، مقابل وعود ذهبية بمدن وبيوت جديدة يعيشون فيها بسلام. واليوم أيضاً، اغلب المسلمين منشغلون بخلافاتهم ومصالحهم إلا مَنْ رحم ربي... وكم من واحد منهم باع دينه ليشتري دنيا غيره.

واليوم كثر الضجيج وقل الحجيج؛ فالتصريحات النارية في كل مكان، لكن الدعم الحقيقي شحيح، وبعضهم لا يراه إلا بالدعاء فقط.

اعتدى نتنياهو على دولة قطر المسالمة التي تقوم بالوساطة لحل النزاع، وعمل ذلك غدراً وحيلة ومكراً، فإذا مر هذا الاعتداء من دون رد أو جزاء رادع فسيمضي إلى حلمه في سردية ما يطلق عليه بـ «إسرائيل الكبرى».

حينما سقطت الأندلس أطلق الشاعر أبوالبقاء الرندي مرثيته، وكأنه يصف اليوم غزة، حيث قال:

«أعندكم نبأ من أهل أندلس

فقد سرى بحديث القوم ركبان

كم يستغيث بنو المستضعفين وهم

أسرى وقتلى فما يهتز إنسان

ماذا التقاطع في الإسلام بينكم

وأنتم يا عباد الله إخوان؟

ألا نفوس أبيات لها همم

أما على الخير أنصار وأعوان

يا مَنْ لذلة قوم بعد عزهم

أحال حالهم كفر وطغيان

فلو تراهم حيارى لا دليل لهم

عليهم من ثياب الذل ألوان

ولو رأيت بكاهم عند بيعهم

لهالك الأمر واستهوتك أحزان

يا رب أم وطفل حيل بينهما

كما تفرق أرواح وأبدان

وطفلة ما رأتها الشمس إذ برزت

كأنما هي ياقوت ومرجان

يقودها العلج للمكروه مكرهة

والعين باكية والقلب حيران

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام وإيمان»

بكى أبوعبدالله محمد الثاني على ضياع الأندلس، وسيبكي الكثير من العرب والمسلمين على صمتهم ورضاهم عمّا يقوم به نتنياهو في سبيل تحقيق حلمه بإسرائيل الكبرى. صدق البارئ عزّ وجل حين قال في محكم التنزيل:

«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي