العديد من المسؤولين والمراقبين والمحللين السياسيين صرّحوا بأن العلاقات الدولية تشهد تحوّلات كبيرة متنوعة متتالية. وأن العلاقات الدولية اليوم مختلفة عما كانت عليه قبل سنوات قليلة. وأن هناك بنى وقواعد دولية أُعيدت صياغتها وتشكيلها، وأخرى في طور إعادة التشكيل.
ومن بين هذه التحولات الحديثة، إعلان الإدارة الأميركية الحالية رفضها وإدانتها أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وأجندتها لعام 2030.
يوم الإثنين الماضي، نشرت المجلة الإخبارية Foreign Policy مقالاً تحليلاً حول أهداف التنمية المستدامة، عنوانه الرئيس «نهاية التطوير»، والعنوان الملحق «لطالما كان نموذج المساعدات الغربية سرابا، حان الوقت لبديل واقعي»، كتبه الدكتور Adam Tooze أستاذ التاريخ ومدير المعهد الأوروبي في جامعة كولومبيا.
في بداية المقال التحليلي، انتقد الدكتور بشدّة تصويت الولايات المتحدة بالمعارضة على مشروع قرار إنشاء «يوم عالمي للتعايش السلمي» أثناء اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس الماضي.
كما انتقد بشدّة التبرير الرسمي للموقف المعارض، الذي صدر برسالة رسمية، تضمّنت رفض الحكومة الأميركية القاطع «الأهداف الأممية».
واعتبر الدكتور أن الموقف الأميركي لم يقتصر على الانسحاب من الالتزامات الواردة في «الأهداف الأممية»، بل تضمّن أيضاً إدانة صريحة للطموح العالمي لتحسين الحالة المادية للبشرية. ويرى الدكتور أن الموقف الأميركي تسبّب بانهيار الإجماع الدولي منذ 2015 حول «الأهداف الأممية».
وفي المقابل، انتقد «الأهداف الأممية»، باعتبارها مقامرة في المدى البعيد. ويعتقد أنها أهداف طموحة غير واقعية في قضايا معقّدة - مثل تغيّر المناخ - تتشابك مع الصعوبات والصراعات طويلة الأمد، كالسياسية والاقتصادية.
ومن باب التوضيح، تساءل عن موقف قوى الوضع الراهن العالمية تجاه تحقيق تنمية مستدامة في الدول النامية.
ومن قبيل المثال، أشار إلى أعظم قصة نجاح في تاريخ التنمية «الصين»، التي انتشلت مئات الملايين من الناس من مستنقع الفقر. فهذه التنمية المبهرة التي استفادت من المساعدات والاستثمارات الخارجية والتجارة العالمية، لم تُوظَّف من قبل الغرب لتعزيز الثقة في المنظومة العالمية القائمة، بل أشعلت فتيل حرب باردة جديدة.
ورجّح الدكتور أن منشأ الانزعاج من التنمية الصينية هو كون محركها ذاتياً محلّياً: التعبئة المحليّة والاستثمارات الموجّهة من قبل الدولة.
وأوضح أن اقتصاد التنمية الحديثة أساساً وليد اعتبارات جيوسياسية. وأن اقتصاديات التنمية وصلت إلى مرحلة النضج - من الناحية النظرية والتطبيقية - في المقام الأوّل بفضل رعاية الولايات المتحدة للصراعات التي شهدتها فترة الحرب الباردة لإنهاء الاستعمار، حيث كان اقتصاد التنمية الأميركي بمثابة مصل مضاد لنماذج التنمية والسياسة والتوافق الجيوسياسي «المنافسة» التي قدّمتها كل من الاتحاد السوفيتي والصين. لذلك نجحت التنمية - ضمن حدود المسموح - في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، دول شرق آسيا الأكثر تحالفاً واندماجاً مع الاستراتيجية الأميركية الكبرى في آسيا.
وأكّد الدكتور أن التنمية الحقيقية سياسية بطبيعتها، لأنها تتعلّق بالقوّة والقدرة على الفعل بدوافع محلية ذاتية، بمعزل عن إملاءات الآخرين. لذلك، العالم الأكثر تطوراً سوف يكون بالضرورة أكثر تعددية في الأقطاب، وأقل قابلية للسيطرة. وهذا ما يدفع قوى الوضع الراهن العالمية إلى عرقلتها.
وفي الختام، دعا الدول الغربية المؤيّدة فعلاً «الأهداف الأممية» «غير الواقعية» إلى التعاطي بإيجابية مع أزمة غياب الولايات المتحدة عن هذه الأهداف، بالعمل بجد من أجل التوافق مع الصين، والخروج معها بمبادرة هجينة من «الأهداف الأممية» والمبادرة الصينية Global Development Initiative. ودعا دول مجموعة العشرين إلى سد الفجوة التمويلية الناجمة عن غياب الولايات المتحدة. كما دعا الدول الغنية الأخرى كالنرويج وقطر إلى المساهمة في سد الفجوة.
حرصتُ على الإشارة إلى مقال الدكتور، باعتباره من المقالات الغنية بالمعلومات القيمة، المتضمّنة رسائل ضمنية مهمة، تستحق الاطلاع والتعاطي الحصيف... «اللهم أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتّباعه».