لا يكاد يوجد كويتي إلا وفي قلبه متسع للبنان... ليس لبنان الدولة على الخريطة فقط، بل لبنان قصيدة معلقة على أبواب العشق، لبنان الأنشودة التي لحنتها ترانيم المآذن وجدران الكنائس، لبنان الجبل والبحر والسهل ومزون السماء... لبنان ليس دولة فحسب، بل قصيدة عاطفية تحمل أبيات غزل عفيف وقافية ضادية أصيلة.
لبنان أول غرام وأول ابتسامة تراود ثغر حبيب، وآخر دمعة تهبط مع آخر نفس شهيد لبيب... لبنان فنجان قهوة يلهو الإنسان بقراءة تفاصيل عروقه ودروبه بين ضياعه وبساتينه. لبنان مع صوت فيروز في إشراقة شمس باردة ندية بعبق زهور مروج بعلبك وبحمدون.
وزياد الرحباني، ذاك المبدع الذي وقف أمام مرآة الواقع ليرى غيره، لم يكتفِ برسم جمال لبنان وطبيعته، بل تقمّص شخصياته المتناقضة، ودروبه السياسية الوعرة، وحمل جذوة اليأس أحياناً، وراية السخط أحياناً، ولوحة الابتسامة أحياناً، في نفس لوامة واحدة، حاك خيوطها في نسيج كوميديا «رمادية».
زياد كان يضع كل شيء على الطاولة وفي المشهد، ولكن بذكاء حتى لا يؤذي أحداً، لكنه يريد أن يوصل الرسالة للكل، يريد أن يقول لكل فرد في هذه المجاميع الحاضرة للمشهد: أنت أحد الطلاسم، وعليك أن تفك نفسك بنفسك. لقد كان يبحث عن كسر واقع أليم يكره أن يكون متكيفاً معه أو هارباً منه.
مسرحيته البديعة «بالنسبة لبكرا... شو» تتضمن سؤالاً صغيراً، لكنه يجسد مسألة وطن يبحث عن وطن. سؤاله ساخر... وتهكمه ساحر... خرج من عقلٍ ماهر، حوّل شقةً متواضعة إلى مجسم صغير لمجتمع كبير ومعقد يختزل طوائفه وأحزابه وأحلامه المؤجلة في فضاء مجهول.
عنوان المسرحية كان إسقاطاً زمنياً تجاوز 1978 إلى حاضرنا. لايزال يراود أذهان اللبنانيين جميعاً، بصرف النظر عن طوائفهم أو أحزابهم وتاريخ احترابهم. في وقفة غنية ولكنها حزينة تتردد على خشبة المسرح: «كل شي بيتغيّر... بس مش هلاّ»... «بكرا بنشوف».
لكن «بكرا» الموعود لم يأتِ، منذ رفع الستار وسدله قبل أكثر من أربعة عقود، حتى يوم رحيل زياد أو بعده، بدنا نشوف شو!
وفي مشهد آخر، يختصر الرحباني منطق المصالح في رسالة تُطلق كسهم ناري إلى كبد الحقيقة: «ما حدا بيحترم حدا إذا ما في ورق بإيدو». والورق هنا... المال. والمال قد حوّل القيم إلى أوراق نقدية، حتى صار «الشرف صار شغلة مش مربحة!»، في مشهد حواري مثير بين طرفين متناقضين.
وفي لحظة أكثر إيلاماً، يُلخّص تحولات المشهد اللبناني في جملة فلسفية «الناس ما بتتغيّر... بتتلوّن»، هنا يضع إصبعه على بُعد فلسفي يتناول جدلية التغيير الذي هو قانون للحياة، أما التلوّن فهو يرمز للانتهازية، حيث تتحرك المواقف كمثل أشرعة السفن في اتجاه ريح المصالح.
هل من مخرج من هذا الدوران العبثي الذي أصبح مملاً ومكلفاً؟ قد يخيّم اليأس على أغلب المشاهد التي حبكها زياد بإتقان، لكنه يترك نافذة صغيرة لضوء مشع في مستقبل مشكوك فيه، حين تتردد فكرة: «العيشة صارت بدها بَطَل... مش مواطن».
لكن... من هو البطل؟ وكيف له أن يواجه هذا الواقع ليصنع مستقبلاً أبهى للبنانيين؟ الرحباني يترك الإجابة مفتوحة... إما أن يكون هناك أبطال كثر، كلٌّ منهم بطل لطائفته وحزبه، يتناحرون في دائرة مفرغة تعيدنا إلى نقطة الصفر... أو أن يظهر بطل واحد، بطل لبناني حقيقي، يخرج من الجيتو الطائفي ومن عباءة التبعية، ليكون بطلاً من الجنوب، وعبر بيروت، إلى الشمال، ومن طرابلس إلى سهل البقاع ثم صعوداً لجبال الأرز، بطلاً لا يقبل القسمة ولا التقسيم، ولا يركع لأجندات الصهاينة أو المتصهينين... بطلاً يملك الشجاعة ليجيب أخيراً عن سؤال الرحباني: «بالنسبة لبكرا... شو؟» ويستطيع أن يجيبه: بكرا لبنان حلو. بكرا لبنان لابد أن يتجاوز مجريات ما سرد أحداثه المريرة زياد الرحباني في رائعتك الثانية «فيلم أمريكي طويل»! حتى لا تفرض أجندات الترويض في مجتمع يراد أن يكون فيه الجنون عقلاً.
رحل الرحباني... وبقيت روائعه شاهدة على قدرة الفن في أن يجمع اللبنانيين ومحبي لبنان في مسرح واحد. لكنه رحل وقلبه مكسور، يراقب من بعيد غزة، وهي تنزف وأيتامها يموتون، والصهاينة في أرض لبنان يعبثون، والعرب يتناحرون، وهو يردد: ليالي الشمال الحزينة، ضلّي اذكريني، اذكريني... خوفي للباب يتسكّر شي مرة بين الأحباب... وتطل السكينة... بليالي الحزينة.
ندعو، وكلنا أمل، أن يسلم لبنان وأهله من كل مكروه، وأن يأتي «بكرا الجميل» الذي طال انتظاره... بكرا حقيقي، لا شعارات في مسرحية، ولا ممثلين مزيفين، ولا منتجين خبثاء، نريد لبنان التفاح والتين والزيتون وشجرة الأرز العريقة... وفيه غصن يرفرف بطيف زياد الرحباني.