سافر إلى ذاتك

هل تعرف نفسك حقاً؟

تصغير
تكبير

ليس سؤالي عن اسمك، وظيفتك، هواياتك، أو أفكارك التي ترددها باستمرار حين تُسأل من تكون.

بل سؤالي أعمق من ذلك:

هل جلست يوماً مع نفسك جلسة هادئة، بلا هاتف، ولا ضجيج، ولا دور تمثّله، وسألتها: من أنتِ؟ لماذا تتصرّفين بهذه الطريقة؟ ما الذي يحرّكك من الداخل؟ وما الذي تخفينه حتى عن نفسك؟

معرفة الذات ليست رفاهية فكرية، ولا فلسفة معقّدة نخوضها في وقت الفراغ.

هي جوهر الحياة الواعية، وهي الخطوة الأولى في أي رحلة نحو التغيير، أو الحب، أو التمكين.

وكلما تهرّبنا من هذا السؤال، عشنا في دوامة نُعيد فيها نفس القرارات، نفس الأخطاء، ونفس الوجع، ثم نلوم القدر.

الكثيرون يعتقدون أنهم يعرفون أنفسهم، فقط لأنهم عاشوا سنوات طويلة داخلها.

لكن الحقيقة النفسية تقول إن الإنسان، بطبيعته، لا يرى نفسه بوضوح.

فهو مشغول ببناء صورة مقبولة اجتماعياً، مرضيّة للآخرين، آمنة نفسياً، حتى لو كانت زائفة.

الطفل الذي تعرّض للنقد المستمر، يكبر وفي داخله شعور دائم بأنه ليس كافياً، فيحاول أن يكون الأفضل، الأجمل، الأذكى، أو الأكثر تضحية، ليحصل على ذلك الشعور البسيط: أن يُحب كما هو.

وحين يفشل في ذلك، يلوم نفسه، لا ظروفه.

يقول: هناك خطأ فيني.

ولا يدرك أن الخطأ كان في من لم يعرف كيف يحتويه.

في جلساتي الإرشادية، كثيراً ما تأتيني امرأة ناجحة، متزوجة، أم، لها مكانتها، ولكنها منهارة داخلياً.

تقول: «أنا ما أعرف شفيّني... كل شي تمام، بس ما أحس بشي!».

حين نحفر في العمق، نجد أنها لا تعرف من هي خارج أدوارها.

كل هويتها مرتبطة بما تقدّمه للآخرين، لا بما تحتاجه لنفسها.

حين أسألها: «شنو تبين؟».

تصمت.

لأنها لم تتعلم أن تسأل نفسها هذا السؤال يوماً.

وهذا ليس نادراً، بل شائع جداً.

نحن نتعلم منذ الصغر كيف نُرضي، كيف نطيع، كيف نحصل على القبول... لكننا نادراً ما نتعلم أن نحترم رغباتنا، نخاف من مشاعرنا، أو نسمح لأصواتنا الداخلية بالحديث.

الدراسات النفسية الحديثة تدعم هذا الواقع.

دراسة من جامعة هارفارد بيّنت أن أغلب الناس يملكون تحيّزاً معرفياً يُسمى «التحيز للذات»، أي أنهم يرون أنفسهم بشكل أفضل مما هم عليه فعلاً، ليس بسبب الكبر، بل لأن العقل البشري يرفض مواجهة مشاعر النقص أو الألم.

دراسة أخرى من جامعة كاليفورنيا أوضحت أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات في الهوية غالباً ما تكون علاقتهم بالذات ضعيفة أو غامضة، ويعيشون حالة من «الاغتراب الذاتي»، أي أنهم يشعرون بأنهم غرباء حتى عن أنفسهم.

تخيّل أن تعيش عمرك كله داخل بيت لا تعرف ملامحه.

تسمع أصواته، ترى بعض نوافذه، لكنه يظل غامضاً، ضبابياً، لا يعبّر عنك بقدر ما يقيّدك.

هذا هو حال من لم يعرّف نفسه لنفسه.

ولاكتشاف الذات، لا تحتاج أن تسافر بعيداً، بل تحتاج أن تعود.

تعود للطفل الذي كنت عليه، للألم الأول الذي لم تُشفَ منه، للكلمة التي جرحتك ومازالت تعيش داخلك حتى اليوم.

تحتاج أن تنظر في المرآة، لا لتعدّل شعرك، بل لتسأل عينيك: ماذا تخبئان؟

هناك أشياء لا يمكن للآخرين أن يعرفوها عنك.

منطقة مظلمة في داخلك لا يراها أحد، وأحياناً لا تراها أنت.

يسمّي علماء النفس هذه المنطقة بـ«المنطقة المجهولة» في نافذة جوهاري – وهي ما لا نعرفه نحن عن أنفسنا ولا يعرفه أحد.

هذه المنطقة لا تُكشف إلا بالتأمل، بالمواجهة، وبالصدق مع الذات.

تبدأ الرحلة حين تسأل نفسك: لماذا غضبت بهذه الطريقة؟ لماذا شعرت بالإهانة؟ لماذا راودني هذا الخوف؟ من أي ذاكرة خرج هذا الشعور؟ من أي تجربة تشكّلت هذه القناعة؟ عندما نبدأ بطرح هذه الأسئلة، تتفكك الصورة القديمة التي رُسمت لنا، ونبدأ في رسم ذاتنا الحقيقية.

أحياناً، نحتاج لمن يساعدنا على الرؤية.

شخص يسمعنا بلا حكم، يطرح علينا الأسئلة التي لم نجرؤ على طرحها، ولهذا يكون العلاج النفسي أو جلسات الإرشاد النفسي أحد أنضج الوسائل لمعرفة الذات.

لا لأنها تخلق ذاتاً جديدة، بل لأنها تكشف لك ما هو أصيل فيك، الذي كان هناك منذ البداية، لكنك نسيته تحت ثقل الظروف.

الجميل في معرفة الذات، أنها تمنحك حرية جديدة.

حرية أن تقول «لا» لما لا يناسبك، دون شعور بالذنب.

حرية أن تحزن دون خجل.

حرية أن تكون كما أنت، لا كما يريدك الآخرون.

وحين تصل إلى هذا النوع من الوضوح، تُحسن قراراتك، وتختار علاقاتك بشكل صحي، وتصبح أكثر تعاطفاً مع نفسك ومع الآخرين.

والسؤال الكبير يبقى: هل تجرؤ أن تكون صديق نفسك؟ أن تكون ذراعك التي تستند عليها؟ أن تقف في صفّك، حتى عندما تخطئ؟ أن ترى نفسك، بكل ما فيك، وتقول لها: أنا معك.

ربما لا تكون هذه الرحلة سهلة، لكنها بالتأكيد... تستحق

تحياتي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي