ذهبت جدتي برفقة والدي إلى باحات الحرم، وتركاني عند أختي الكبرى. فلما عادا، عاتبتُهما عتاب الطفل لوالديه، فهمس والدي في أذني أنهما ذهبا للتصدّق على فقراء مكة، وأن «ماما هيا» تحب أن تخفي هذا الأمر طمعاً في بشارة رسول الله ﷺ الذي قال: «سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...»، وذكر منهم: «ورجلٌ تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
كانت «ماما هيا» مصدر الدفء في حياتنا. أحبتنا، وأكرمتنا، وأمطرتنا بدعائها الدائم. وكل مرة أسألها الدعاء، كانت تقول لي: «أدعو لك كدعاء أمي لطيفة لأخي عبدالعزيز: ربي يجعلك بركة عشرة أولاد».
جدتي هي ابنة الحاج علي عبدالوهاب المطوع، الرجل الذي تعلّق بباب الملتزم ودعا ربه متضرعاً أن يرزقه سبعاً من البنات لينال بشارة النبي ﷺ لوالد البنات. وقد أُجيبت دعوته، فآتاه الله بدرية، ونجيبة، وهيا، ونعيمة، وشفيقة، ووسمية. أما السابعة، فقد توفيت في مهدها.
بيد أن والدها خصّها بمزيتين: أولاهما أنه سمّاها باسم أمه هيا الياسين، وثانيهما أنه اصطفاها من بين عياله ليشدّ معها الرحال إلى الحرمين والمسجد الأقصى. وكان ينشد لطفلته في الطريق:
«هياوين نور اللواوين»،
واللِّيوان في اللهجة الكويتية هو مكان مسقوف ومفتوح من الأمام، يطل على الحوش، ينفذ منه النور، كما يلجأ إليه أهل البيت للوقاية من الشمس والمطر، وهي كناية أنكِ يا ابنتي نور البيت.
روت لي جدتي أنها نشأت في بيت فسيح ومضياف في فريج الجناعات، يقصده الناس من كل نواحي الكويت. الرجال يملأون ديوان والدها حتى أذان العشاء، والنساء يجلبن الأقمشة ليخطنها في المكائن الميكانيكية التي كانت نادرة في تلك الأيام. سألتها متعجباً: ألا تشترون الملابس من السوق؟ فأجابت بالنفي: «نحن نشتري الأقمشة فقط، ونخيطها بأيدينا»!
تعلّمت رحمها الله تعليماً نظامياً في المدرسة القبلية، وكانت فخورة بتحصيلها العلمي، تروي أيامها هناك بفخر، وتعدّد أسماء معلماتها وزميلاتها، اللواتي ظلّت وفية بوصلهن حتى أقعدها المرض.
عشقت العلم، وبثّت هذا الحب في بنيها وحفدتها؛ دفعت والدي د. صلاح العبدالجادر لنيل الدكتوراه، حين كان أبناء جيله يندفعون إلى التجارة أو الوظائف المرموقة. وشجعت أعمامي وائل وعبدالحميد، وعمّاتي أفراح وإصلاح، على العلم والإيمان. غرست فيهم تقوى الله، واتباع أوامره وحث الناس على المعروف الأقربين منهم والأبعدين، كما تأمر دوماً بأداء النوافل من صيامٍ وصدقةٍ وصلاة، وحسن الخُلق، والإتقان في عمل الدنيا، والإحسان في أعمال الآخرة. وأشهد أنها تأمر بالمعروف وتفعله.
ومما عزز لدي قناعة حبها للعلم أنني قبل بضع سنوات لما ودّعتها قبل سفري للبعثة، لمعت عيناها وامتلأت غبطةً ارتسمت على محياها، فكان الوجه الطلق والدعوات التي تبعته دفقةً من التشجيع استعنت بها على مشقة الطريق طوال سنواتي الخمس في أميركا.
ومما اشتهر عنها في البلاد أنها كانت تفيض كرماً وعطاءً، فقد كان المال في يدها كالماء، يجري إلى منافذ الصدقة حيث وُجدت فكما رأت عيني وسمعت أذني، كان باب بيتها مقصداً لأهل الفاقة؛ تخرج إليهم، تسأل عن حالهم، وتعطيهم ما تيسّر.
رافقها في رحلة الحياة زوجها، جدي عبدالقادر ابن النوخذة عبدالحميد العبدالجادر، الذي وقاه والده من ركوب البحر خوفاً عليه، فاستحال إلى تاجر أقمشة يملك دكاناً صغيراً في المباركية.
وكانت «ماما هيا» خير ما تكون المرأة من سندٍ لزوجها؛ وكان يجد فيها سَنَده الأقرب، كلما اشتدت عليه منعطفات الحياة، حتى توفّي عنها وهو راضٍ. رحمه الله.
يطول الحديث عن «ماما هيا»، ولكني أردت من هذا المقال أن أرثيها، وأن أنقل للقارئ الكريم قبساً من سيرة امرأة حزن لفقدها خلقٌ كثير، مثل حزننا وزيادة. وهذا الفضل لا يُتأتى إلا لمن عاش حياة ملأى بحب الله، والسعي لرضاه، والإحسان إلى خلقه.
ولعمري، قلّ من اجتمعت فيه خصال جدتي.
الملتقى في الجنة، يا نور حياتنا، ويا نور اللواوين.