كل شيء يبدأ من هناك... من الصورة التي نحملها عن أنفسنا، لا تلك التي نعرضها للناس، بل التي نهمس بها لأنفسنا في الداخل، في لحظات الصمت، عندما لا يكون هناك جمهورٌ نُجيد التمثيل أمامه.
ليست المشكلة في ألا يراني الآخرون كما أنا... بل في أنني لا أرى نفسي كما أستحق.
لسنا فقط ما نرتديه أو نملكه أو ننجزه... نحن ما نظنه عن أنفسنا حين نُخفق، حين نُرفض، حين لا يصفّق لنا أحد.
صورة الذات ليست مجرد فكرة، بل هي عدسة نشوّه بها الواقع دون أن نعلم.
نختار علاقات، فرصاً، وحتى أحلاماً، بناءً على تلك الصورة التي رسمتها جملة في الطفولة، أو موقف متكرر، أو مقارنة جارحة تركت فينا ندبة لا تُرى... لكنها تُؤلمنا كلما اقتربنا من الضوء.
أحد الأشخاص الذين تعاملت معهم -ولنسمّه «سالم»- كان شاباً ذكياً وموهوباً في مجال الرسم، لكنه يعمل في وظيفة مكتبية رتيبة لا تُشبهه. سألته: لماذا لا تحوّل موهبتك إلى مشروع؟ أجابني، دون تفكير:
«أنا؟ أنا مو من الناس اللي ينجحون بشي كبير...».
هذه الجملة لم تكن مجرد رأي، بل كانت مرآة مشوّهة لصورة الذات التي حملها منذ صغره... لأنه تعرّض باستمرار للتقليل، ولأن أحد معلميه قال له مرة: «الرسم ما يطعم خبزاً».
ربما لم يرفضه أحد بشكل مباشر... لكن الطريقة التي كان يُعامَل بها، والفرص التي لم تُمنح له، جعلته يؤمن داخلياً أن النجاح ليس له، وأن موهبته لا تستحق أن تكون مصدراً للحياة.
صورة الذات تُصبح قيداً ناعماً. لا يؤلم، لكنه يمنعك من الطيران.
تسير بك إلى أماكن لا تُشبهك... وتُقنعك أن التنازل «نُضج»، والخوف «حكمة»، وأن الأحلام الكبيرة «سذاجة».
نرضى بالأقل، لا لأننا لا نريد المزيد... بل لأننا لا نصدق أننا نستحقه.
نخاف من الحب العميق، لأننا نظن أننا سنُكشف، و»لا أحد قد يحبنا كما نحن».
نعتذر حتى عن أحلامنا... لأننا نشعر بأن الطموح «أكبر من مقاسنا».
صورة الذات لا تُكَوَّن من فراغ... بل من مزيج معقّد من التجارب، الرسائل الخفية، والأصوات التي ترسّبت في الداخل. لكنها، ورغم قوتها... ليست أبدية.
الصورة الداخلية عن الذات قد تكون مشوشة، مشروخة، غير عادلة.
لكن الأجمل؟ أنها قابلة للتغيير.
وقابلية التغيير لا تعني أنك ستصبح شخصاً آخر... بل أنك ستبدأ أخيراً في أن تعود لنفسك.
الشفاء يبدأ عندما نتوقف عن تصديق كل ما قيل لنا... عندما نختبر ذواتنا الجديدة في مساحات مختلفة... عندما نحب أنفسنا دون شروط، ونراها لا كما شكّلوها، بل كما نختار أن نكونها.
أن تصنع صورة ذاتية واضحة عن نفسك، ليست عملية سهلة، لكنها أكثر القرارات تأثيراً في حياتك.
لأنك عندما ترى نفسك بوضوح...
سيراها العالم أيضاً.
وسيعرف أنك لم تكن ضائعاً... بل كنت في طريقك إلى نفسك. تحياتي.