من بندقية هوبكنز إلى القنبلة النووية: سردية الهيمنة البيضاء

تصغير
تكبير

إبان عام 1632، في مستعمرة صغيرة تابعة لما يُعرف اليوم بولاية ماساتشوستس، تمت محاكمة رجل يُدعى هوبكنز، بتهمة بيع بندقية ومسدس، مع بارود وطلقات، إلى أحد زعماء السكان الأصليين (الهنود الحمر) واسمه ساجامور جيمس. ولأن بيع السلاح للهنود الحمر ممنوع فقد صدر بحقه حكم قاسٍ، تمثّل في الوسم على الوجه بعلامة محرقة تبقى كوصمة تُثبت أنه مجرم علاوة على جلده علناً أمام الناس، وذلك بقصد إذلاله اجتماعياً وردع غيره.

كان الزعيم ساجامور، يحاول ببساطة الدفاع عن نفسه وقبيلته ضد الوحشية الاستعمارية للرجل الأبيض، الذي كان يستولي على الأرض، ويعتدي يومياً على السكان الأصليين، ويفتك بأبنائهم، ويعمل على طردهم من موطنهم.

في المقابل، حرص المشرّع الأميركي، منذ بدايات الاستيطان مروراً بتأسيس الدولة الأميركية ووصولاً إلى الزمن الراهن، على إتاحة امتلاك وبيع السلاح، استناداً إلى مبدأ حرية الاختيار وحق الدفاع عن النفس، إضافة إلى «الخوف من استبداد الحكومة المركزية»، كما ورد في الدستور الأميركي قبل التعديل الثاني وبعده.

لكن هذا الحق، عملياً، كان مقتصراً على الرجل الأبيض المستعمر فقط، خاصة في المراحل المبكرة من الاستيطان وبناء الدولة.

ولم يكن هوبكنز، وحده ممن عوقب بتلك التهمة، بل سُجّلت العديد من المحاكمات المماثلة، حيث بلغت العقوبات حدوداً قصوى من القسوة، شملت النفي إلى أوروبا، ومصادرة الأملاك، والتهديد بالقتل أو السجن.

إن الازدواجية التمييزية للرجل الأبيض ضد السكان الأصليين أو من يُعتبرون «آخرين»، لم تقتصر على موضوع بيع السلاح، بل ظهرت في مجالات كثيرة، من أغربها ما فرضته القوى الاستعمارية البريطانية في الهند، من خلال ما عُرف بـ«قانون الملح».

فبموجب هذا القانون، يُمنع الهنود من إنتاج أو حتى جمع الملح، رغم توافره الطبيعي على سواحل بلادهم، بل ويُجبرون على شرائه من تجّار الاستعمار البريطاني بأسعار باهظة!

وقد تم تبرير مثل هذه السياسات التمييزية في إطار ما يُعرف بسردية «عبء الرجل الأبيض» (The White Man’s Burden)، وهو مبدأ أيديولوجي فوقي يدّعي ظاهرياً أن الرجل الأبيض «مُلزم» بتحضير الشعوب الأخرى، بيد أنه يُبيح استخدام أي وسيلة ضرورية لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك القتل والتشريد والاستيلاء على الأرض، بل حتى انتهاك الأعراض. والغطاء الأيديولوجي لهذه السردية تتمثل في الدارونية الاجتماعية التي تفترض صراع الكائنات والذي منه يفرض القوي نفسه بموجب قانون البقاء للأقوى. أما الغطاء الثقافي فقد تجسد في قصيدة كتبها روديارد كبلنغ (Rudyard Kipling) عام 1899، بعنوان «تحمل عبء الرجل الأبيض»، والتي يقول فيها:

تحمّل عبء الرجل الأبيض،

وأرسل أفضل من أنجبت من نسل،

واربط أبناءك بالنفي،

كي يخدموا حاجات أسراك،

لينتظروا مُثقَلين بالقيود،

في خدمة أقوامٍ مضطربة وهمجية،

شعوبٍ أُمسكت بها حديثاً، غاضبة،

نصف شيطان، ونصف طفل.

كبلنغ، أنشد هذه القصيدة بمناسبة احتلال أميركا للفلبين حيث كان منتشياً بذلك الحدث ويدعو أميركا لتحذو الطريق البريطاني «لتحضير الشعوب»، ومواصلة الرسالة النبيلة للاستعمار ضد الشعوب «الهمجية» التي تغضب ممن يريد تحديثها.

انطلاقاً من هذه العقيدة السياسية، يمكن فهم الدعم الغربي المستمر للانتهاكات الصهيونية ضد العرب والمسلمين الغاضبين من إسرائيل التي تريد تحديثهم وتدجينهم بعقيدة التفوق الصهيوني!

لذا، فالاستيلاء على الأرض بات عملاً «مشروعاً»، والإبادة الجماعية «مبررة سلفاً»، والتشريد، وسلب الحقوق، والطرد، والاستحواذ على الأملاك، تُصوَّر كأنها «رحمة» في سبيل «التحضّر والسلام» كما يدّعون. لذلك فالإبادة الجماعية في غزة وسيلة قذرة تبررها الغاية وهي الهيمنة.

ومن هنا نفهم لماذا يُسمح لإسرائيل بامتلاك ما بين 200 و500 رأس نووي، بالإضافة إلى أسلحة دمار شامل، دون توقيع معاهدة حظر الأسلحة النووية، أو السماح للمفتشين الدوليين بدخول الأراضي المحتلة.

في المقابل، تُمنع إيران ودول عربية أخرى من مجرد امتلاك مفاعل نووي للأغراض السلمية!

وبذلك نفهم أيضاً تعاطي الغرب مع الصهيونية كمشروع استعماري محمي، نابع من ثقافة احتقار الآخرين.

فالقانون الدولي لا يُطبّق إلا على «الآخرين»، أما الرجل الأبيض فمستثنى منه. المعاهدات الدولية تُفعّل فقط على غيرهم، والمنظمات الدولية تصدر قرارات مؤثرة فقط ضد «الآخرين»، أما حين يُدان الرجل الأبيض في برهة غفلة أو نتيجة فضيحة بائنة، فلا وزن لها، ولا أثر فعلياً لآثارها.

وهكذا تتجلى الثقافة الإمبريالية الاستعمارية، حتى بعد زوال مظاهرها الشكلية، إذ تبقى كامنة في الخلفية الثقافية للسياسات النخبوية التمييزية، وتُمارَس ضد الشعوب الأخرى.

وللعلم فحتى عام 2021، استُخدمت الكلمة التمييزية «Aliens» في وصف غير المنتمين ثقافياً أو وطنياً، وهي كلمة تُشير أيضاً إلى «كائنات فضائية»، أي كأنهم ليسوا بشراً!

وبطبيعة الحال، وللإنصاف، فإن أغلبية الشعوب في أوروبا وأميركا ترفض هذا المنطق العنصري لكنه بات مساراً سياسياً ومنظومة عملية للنخب المسيطرة. فمن المعروف، أنه إذا تجرأ شخص أبيض على كسر هذه المنظومة العنصرية -كما فعل هوبكنز في 1632، أو كما فعل طلاب الجامعات الأميركية في احتجاجاتهم ضد الممارسات الصهيونية، أو كما أصدر قضاة المحكمة الدولية حكماً ضد نتنياهو، وجوقته كمجرمي حرب- فإن ذلك يُواجه بالعنف، وبالإجراءات القمعية، والتهديد، وفرض العقوبات، تحت ذرائع متعددة، لكن جوهرها هو: تحدي سلطة الرجل الأبيض المتسلّح بثقافة التفوق الإمبريالي.

إذا فهمنا هذه الجدلية التاريخية العميقة لهذه السردية، يمكننا أن نفهم بوضوح كيف يتعامل الساسة الصهاينة وغيرهم مع قضايا العرب والمسلمين -خاصة ما يتعلق بانتهاكات الكيان الصهيوني- تعاملاً غير إنساني، لأنهم ببساطة يرونهم مجرد «آخرين»... أو حتى Aliens، أي كائنات غير بشرية لا تستحق المساواة معهم!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي