كثيراً ما اسمع من بعض المثقفين والمفكرين جملة «أنا محد فاهمني»، كما أسمعها أيضاً من بعض «المراهقين» الذين يدخلون عالم القراءة حديثاً... أما المراهقون والذين يدخلون عالم القراءة حديثاً فأجد لهم العذر في قول هذه الجملة وذلك بسبب المرحلة العمرية وخصائصها وحالة الارتباك التي يعيشونها، وأما الكبار من المثقفين والمفكرين والكُتاب فلم أجد لهم عذراً في ذلك، وصرختهم عندي في ذلك مثل صرخة في وادٍ غير ذي زرع.
فهل قابلت يوماً، عزيزي القارئ! أحداً سمعته يقول «أنا محد فاهمني»؟! سواءً من الكتُاب والمثقفين أو حتى من أصدقاء الديوانية؟... إذا كانت إجابتك «نعم» فأكمل هذا المقال، وإذا كانت إجابتك «لا» فلا تضيع وقتك، واذهب إلى حاجتك، رحمك الله وبارك فيك.
قال تعالى «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ» (سورة الحشر: 19)، لذلك فمن الوهم الذي يعيشه البعض هو اعتقادهم أنهم وصلوا من العلم والحكمة بحيث إن كل من حولهم لا يفهمونهم -ولو كانوا وصلوا فعلاً للعلم والحكمة لفهمهم من حولهم- فيجدون أنفسهم في مسارين، فإما أن يعيشوا مع الناس في حالة انتقاد دائم واتهام للناس بالجهل والسطحية، وإما أن يعتزلوا الناس ويعيشوا في اغتراب وعزلة.
أما مسار حالة الانتقاد الدائم لكل من حولهم فهو أقرب إلى (وَهم التفرد) منه إلى العمق، وهو حالة من الكبر تعمي البصيرة، حالة تجعل الإنسان بعيداً عن الحمد قريباً من الاستياء الدائم والسخط والغضب.
أما مسار العزلة والابتعاد عن الناس وعدم مخالتطهم وتحمل ما يصدر منهم، فيُحذرنا النبي ﷺ بقوله «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» (صحيح مسلم)، فمن يبحث عن فهم نفسه عليه أن يمر عبر مرايا الآخرين بتواضع. قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ» (سورة المائدة: 2)، فالفهم مشاركة، وليس مُناجاة في الفراغ، والفهم تبسيط لا تشدق في الكلمات.
في علم النفس، هناك حالة تُسمى «تأثير دانينغ-كروغر»، حيث يظن الجاهل نفسه حكيماً عميقاً، ويثق في قدراته وفهمه بشكل مبالغ فيه... وقد قال الحسن البصري، ذات يوم «إذا رأيتَ الرجلَ يُعجب بكلامه، فاعلم أن فيه عِلة».
لذلك، فالعزلة التي يظنونها ستراً لتفردهم قد تكون هروباً من مرآة الذات... فقل لي بالله عليك! ماذا يستفيد المجتمع من مثقف أو أديب أو مفكر يعيش في العزلة واتهام الجميع، دون أن يقدم مبادرة واحدة مفيدة للناس على أي مستوى من المستويات؟! يقول ابن القيم «مَن لم يَعرف نفسَه اشتغل بعيوب الناس، وغفل عن عيوبه»، وفي الفلسفة الإسلامية، «الهروب من المجتمع هروب من مواجهة الحقيقة».
يقول البعيد «أنا محد فاهمني» ولكن واقعه يقول «إنه مو فاهم نفسه»!... رجال ونساء بلغوا من العمر عتياً وإلى الآن يقولون «محد فاهمني»! وهؤلاء حالهم كمن يبني سوراً حول بذورٍ في يده، ثم يشكو أن الأرض لا تُنبت، وذلك لأنهم يرون في كل من حولهم «حوائط» وأسواراً لا جسوراً ومرايا، والفهم لا يُطلب بالانعزال، بل بالانفتاح على جسور ومرايا الأرواح... وربما كان الصمت الذي يلومون العالم عليه هو الصمت نفسه الذي يُخبئون فيه حيرةَ أنفسهم.
عزيزي القارئ...! إذا سمعت أحدهم يقول «أنا محد فاهمني» فأخبره فوراً قائلا «عليك أن تفهم نفسك أولاً»... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر.