سافر إلى ذاتك

زواج من ورق

تصغير
تكبير

ليسا مطلقَين، ولا متزوجَين حقاً... هما فقط يعيشان تحت سقف واحد، يتشاركان الأوراق الرسمية، وربما الاسم الأخير، لكن لا شيء آخر. لا مشاعر، لا دفء، لا معنى. زواج قائم على الواجب، لا الرغبة؛ على التزامات ظاهرية، لا عمق وجدانيا.

في الخارج، تراهما «زوجين مثاليين» في المناسبات، يضحكان أمام الناس، وربما يتبادلان المجاملات في العلن. لكن خلف الأبواب، هما مجرد «غريبين مألوفين»، يعرف كلٌّ منهما الآخر كما يُعرف الأثاث المنزلي، بلا دهشة، بلا حياة.

هو لا يسألها: «شلونج؟ شنو تحسين؟»، وهي لا تسأله:«متى آخر مرة حسّيت بالأمان؟». ينام كلٌ منهما على طرف الفراش وكأن بينهما قارة كاملة، يلتقيان على المائدة لا ليتشاركا الطعام، بل الصمت. هو يركّز في هاتفه، وهي تراقب ما تبقّى من نبضها في مرآتها.

هذه العلاقة ليست خيانة، لكنها ليست وفاءً أيضاً. ليست صراعاً، لكنها ليست سلاماً. حالة رمادية لا تنتمي لأي تعريف شرعي أو نفسي، فقط استمرار، فقط «نكمّل علشان العيال»، أو «ما نبي نفضح نفسنا».

«زواج من ورق» هو أن تكون العلاقة زوجية في القانون، لكنها ميتة في الشعور. هي صكّ اجتماعي مغلّف بواجبات مكررة، فارغ من الحميمية، خالٍ من المودة، خالٍ من الإحساس بأن هذا الإنسان هو «البيت».

في مثل هذه العلاقات، يموت الإنسان حياً. يدفن احتياجاته تحت ركام «العادات» و«الخوف من كلام الناس»، ويعيش دوراً لا يمثّله. وإن كان الجسد مازال موجوداً، فالقلب غادر منذ زمن طويل.

الحقيقة المؤلمة أن كثيراً من هذه الزيجات لا تنتهي، بل تُورّث. يكبر الأبناء وهم يعتقدون أن هذا هو الزواج: صمت بلا حديث، أداء بلا دفء، حياة بلا حياة. فيكرّرون الدائرة نفسها، ويرثون زواجاً يشبه ما عاشوه... زواجاً من ورق.

لكن كيف ينشأ «زواج من ورق»؟

من الناحية النفسية، كثير من هذه العلاقات تبدأ بحب، أو على الأقل بقبول، ثم تتآكل تحت ضغط غياب التواصل، وتراكم الخيبات غير المعالَجة. وقد بيّنت دراسة نُشرت في Journal of Marriage and Family عام 2022، أن أكثر ما يدمّر الرابط الزوجي هو الصمت الطويل، حيث يبدأ الزوجان بالكف عن محاولة الفهم، ويكتفيان بالبقاء.

ومن الجانب الاجتماعي، يُربّى بعض الأزواج على أن «المظاهر» أهم من الجوهر، وأن «بقاء الزواج» يُعتبر نجاحاً، حتى لو كان بلا معنى. وهنا تلعب التقاليد والضغوط المجتمعية دوراً هائلاً في استمرار زواج ميت... فقط لأنه يبدو حياً.

في دراسة عربية نُشرت عام 2021، حول التوافق الزواجي في المجتمع الخليجي، تم تصنيف 37 % من الزيجات بأنها «علاقات وظيفية لا وجدانية»، بمعنى أنها قائمة فقط على أداء الأدوار: طبخ، عمل، تربية، لكن من دون تقاطع شعوري حقيقي.

هذه النسبة لا تعني أن الناس سيئون، بل تعني أنهم أُجبروا على أن يحبّوا بأسلوب غير إنساني... أو أن يستمروا بلا حب، فقط لأن الورق يربطهم.

هنا تصبح المؤسسة الزوجية عبئًا نفسياً، بدل أن تكون حاضنةً للشفاء. وتتحول العلاقة إلى حالة من «التقنُّع»، حيث يعيش الطرفان داخل أدوار، لا مشاعر.

نحن لا نتحدث عن خلافات عادية أو برود موقت... بل عن زواج يُستهلك فيه العمر دون دفء.

في العيادة النفسية، نرى آثار هذه العلاقة على شكل اكتئاب خفيف مزمن، توتر داخلي غير مفسَّر، نوبات غضب على الأطفال، وغياب الرغبة في العيش... لا لأن الشخص «ضعيف»، بل لأن العلاقة لم تعُد ترويه.

الحل ليس الطلاق دائماً، ولا الاستمرار دائماً.

الحل يبدأ من السؤال:

«هل أنا أعيش علاقة... أم فقط أمارس دور المتزوج»؟

ثم من الشجاعة النفسية في مواجهة الذات، وإعادة تعريف الزواج لا كمؤسسة اجتماعية، بل كرابط وجداني حرّ.

وعندها فقط... قد يتحوّل الزواج من ورق إلى زواج حقيقي.

أو نختار بكل وعي... ألّا نعيش كأننا نعيش.

تحياتي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي