نولد ونحن نبحث عن الأمان، عن حضن يحتوي خوفنا الأول من هذا العالم، ذلك الخوف الذي لا نملك له اسماً لكننا نصرخ بسببه لحظة خروجنا إلى الحياة. منذ تلك اللحظة، يبدأ التعلق. التعلق ليس ضعفاً كما يظنه البعض، بل هو رغبة بشرية فطرية بأن يكون هناك من يرى وجودنا ويشعر به. أن نُحب، أن نشعر بأننا نُهم، أن يكون هناك شخص واحد على الأقل إذا ارتجفنا احتوانا، وإذا سقطنا انتشلنا. لكن المشكلة ليست في التعلق، بل في أن يتحول إلى قيد.
يصبح التعلق مؤلماً عندما نعلّق سعادتنا بوجود شخص أو استمراره. حين نظن أن الحياة لا تُطاق من دونه، أو أن قيمتنا تسقط إذا ابتعد، أو أننا غير مرئيين إلا من خلال عينيه. هذا التعلق يتحول إلى جرح مفتوح نُنزف منه كل يوم دون أن نشعر، لأنه يسرق حريتنا، ويجعلنا عبيداً لردة فعل أو رسالة أو وجود.
وفقاً لنظرية التعلق لـ جون بولبي (John Bowlby)، فإن العلاقة الأولى التي نبنيها مع مقدم الرعاية في طفولتنا تترك بصمة دائمة في طريقة ارتباطنا بالآخرين في المستقبل. فإذا نشأنا على غياب الاستجابة العاطفية، أو نشأنا في جو من التهديد أو الرفض، نكبر ونحن نبحث عن «الوجه الآخر» لهذا النقص، ونصبح عرضة للتعلق المرضي. نخاف أن يُتركنا الآخر، لأن عقلنا الباطن يكرر تجربة الهجر الأولى التي لم تُشف.
نحن لا نُشفى من التعلق فجأة، بل نُشفى حين نبدأ بإعادة تعريف الحب. حين نفهم أن الحب لا يعني التملك، وأن القرب لا يجب أن يكون شرطاً للحياة. نبدأ بالتعافي حين نعرف أننا نستحق أن نُرى حتى وإن كنا وحدنا، وأن السلام الداخلي لا يُمنح، بل يُصنع.
أذكر حالة لفتاة في بداية الثلاثين، كانت تُدخل نفسها في علاقات عاطفية سامة، لا لأنها لا ترى العيوب، بل لأنها تخاف من فكرة أن تكون «بلا أحد». كانت تكتب لي: «أفضّل أن أُؤذى على أن أُترك». وعندما عدنا إلى جذور التعلق لديها، وجدنا طفلة عاشت طفولتها وهي تنتظر أباها كل مساء على الباب، ولم يعد. منذ ذلك الحين، لم تعد تثق في أن من يحب، يبقى. وبدأت تخلط بين الحب ووجود الألم، بين الغياب والحنين. تعافت حين سمحت لذاك الطفل بداخلها أن يُصدق بأن الحب لا يعني الانتظار، بل الأمان.
أحياناً نتعلق لأننا لم نحصل في طفولتنا على أمان كافٍ، فنتشبث بأي دفء يشبه ذلك الذي افتقدناه. وأحياناً نتعلق لأننا لم نتعلم أن نحب أنفسنا كما يجب، فنبالغ في تقديس الآخر لنملأ الفراغ فينا. كل هذه الأسباب لا تجعلنا سيئين، بل فقط بشراً بحاجة لفهم أعمق.
العلاقات السليمة لا تقوم على التعلق، بل على الالتقاء. التقاء روحين تمتلئان بأنفسهما، وتختاران أن تسيرا جنباً إلى جنب لا أن تندمجا حد الذوبان. فالحب الناضج لا يبتز ولا يخيف ولا يطلب إثباتاً دائماً، بل يمنح مساحة، ويتنفس بحرية، ويزهر مع الوقت.
التعلق سجن عاطفي، لكن الوعي مفتاح بابه. وما بين الإدراك والاختيار، تنبت الحرية، ويولد نوع آخر من الحب: حب قائم على النضج لا على الحاجة، على الامتلاء لا على النقص، وعلى السلام لا على القلق.
تحياتي.