أكذوبة الدولة العلمانية اليهودية!

تصغير
تكبير

العلمانية، كما عُرفت فلسفياً وسياسياً، جاءت لفصل الدين عن الدولة، لكن هذا المبدأ سرعان ما يتلاشى أمام النموذج الذي تمثله «الدولة اليهودية» التي تُسمى إسرائيل. فكيف يُمكن التوفيق بين ادعاء العلمانية وبين قيام الدولة على أساس ديني صرف؟! بل كيف يمكن الترويج لهذا التناقض باعتباره أمراً طبيعياً، في حين يُرفض بالمطلق عندما يطرحه الآخرون؟!

إنّ الزعم بأن السياسة يمكن أن تنفصل كلياً عن الدين هو تصور غير واقعي لا من الناحية الفلسفية ولا من الزاوية العملية. فالدولة ككيان مركب لا تنشأ في الفراغ، بل تتشكل من مكونات مجتمعية تشمل الدين، والثقافة والعادات واللغة والتاريخ والقانون والاقتصاد، وغيرها. وكل هذه العناصر تتفاعل لتنتج دولة مدنية مؤسساتية تحتكم إلى القانون، دون أن يعني ذلك إقصاء الدين من المجال العام.

وعليه، فإن الدولة المدنية تختلف عن الدولة الدينية لا في وجود الدين من عدمه، بل في مدى هيمنة المؤسسة الدينية على مؤسسات الدولة. فالدولة المدنية تستوعب الدين كعنصر أساسي من عناصر تكوينها المجتمعي والثقافي، في حين تُحكم الدولة الدينية من قبل مؤسسة دينية واحدة تفرض رؤيتها على الجميع في إطار تفسير واحد ورفض تام لتعددية الفكر والمشاركة في بناء الدولة.

وفي هذا الإطار، نجد أن الكثير من الدول التي تدعي العلمانية لا تستغني في الواقع عن المؤسسات الدينية، كما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث يسعى السياسيون إلى كسب تأييد تلك المؤسسات النافذة عبر خطابات وسلوكيات سياسية مهجنة دينياً. وهو ما يدل على أن الحديث عن فصل تام بين الدين والدولة، مجرد فصل «مصطنع» لا يستقيم مع الواقع.

لكن المدهش في هذا السياق هو التناقض الفجّ في المعايير عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. فبينما يُمنع غيرها من تأسيس دول ذات طابع ديني، يتم التسليم – بل والدفاع الشرس – عن حق إسرائيل في أن تكون «دولة يهودية» تستند إلى عقيدة دينية مبرمجة صهيونياً، بل وتُمنح الحصانة من أي نقد لها تحت ذريعة معاداة للسامية أو باعتبارها شكلاً من العنصرية!

وهنا يبرز تساؤل مشروع وهو، لماذا يُقبل بإسرائيل كدولة دينية، بينما يُستنكر هذا الحق على غيرها؟ الجواب يكمن في فكرة التفوق التي تروّج لها الصهيونية بوصفها تمثيلاً لـ«شعب الله المختار»، وهي فكرة يتم تكريسها عبر أدوات الهيمنة الثقافية، بما في ذلك الإعلام والسياسات الدولية، لتصبح من المُحرَّمات التي لا تُمسّ من خلال استخدام قوة القانون في دول تتبنى الديمقراطية، وهو ما يثير إشكالية عميقة في التطبيقات العملية لتك الديمقراطيات ما يخرجها من جوهرها القائم على احترام الرأي والتعبير والتعددية إلى نموذج بلوتوقراطي يختزل الحرية بيد البعض فقط خاصة ممن يمتلك الثراء والمال ويتحكم ببيئة التجارة والأعمال.

لذا، هذه الازدواجية بلغت حداً يجعل من انتقاد الصهيونية جريمة يعاقب عليها القانون في بعض الدول الغربية، في حين يُسمح بانتقاد أي أيديولوجية أو حكومة أخرى تحت مظلة حرية الرأي والتعبير. وقد تجسّدت هذه الأفكار العنصرية في تبرير السلوك الإسرائيلي الإجرامي الذي أباح القتل والإبادة الجماعية تحت أنظار أكثر الدول التي تدعي الديمقراطية العلمانية! فلا قانون دولياً يمكن أن يحكم، ولا قرارات أممية تؤخذ بعين الاعتبار، ولا محاكم دولية تحترم، ولا حرية رأي معارضة لسلوك الدولة الصهيونية يباح، أمام ما تقوم به إسرائيل المحمية بالعقيدة السياسية التي تتبناها الدوائر المتصهينة!

ومن هنا تظهر بوضوح العلاقة البنيوية المتشابكة بين من صاغ فكرة العلمانية المجردة ومن يناصر الصهيونية، حيث تم تغليف كل منهما بمظهر مختلف لغايات تسويقية تخاطب أذواقاً مختلفة، في سوق يُباع فيه الوهم السياسي تحت أسماء وعناوين وشعارات براقة لا تختلف كثيراً عما يروج له بعض المتعصبين دينياً ممن يدعون امتلاكهم لمفاتيح الجنة.

وفي نهاية المطاف، تظل الحقيقة ساطعة، وهي... لا يمكن بناء سلام عادل أو نظام عالمي متوازن في ظل معايير مزدوجة، تُشرعن التفوق الديني والسياسي لطرف، وتجرّم مجرد التفكير به للطرف الآخر.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي