سافر إلى ذاتك

الأسوأ من الجهل... أن نرتاح فيه

تصغير
تكبير

ليست المشكلة في أن نجهل، فكل إنسان يولد لا يعرف، ويتعلّم من الحياة. لكن المشكلة الحقيقية تبدأ حين نرتاح في الجهل، حين نحبّ منطقة الراحة الفكرية ونتمسك بها، ونرفض أن نغادرها، حتى لو أصبح العالم من حولنا شيئاً آخر تماماً.

في كل يوم تتغيّر المعرفة، يُعاد تعريف المفاهيم، وتُطرح أسئلة جديدة عن الإنسان والهوية والمعنى. بينما هناك عقول قرّرت أن تقف. لا تريد أن تسأل، لا تحب أن تشك، ولا تجرؤ على مراجعة ما تعرف. عقل يتكلّس خلف جملة: «اللي نعرفه أحسن»، ويخاف من كل ما هو مختلف لأنه لا يشبه ما تربّى عليه. هناك مَنْ يقدّس القوالب القديمة لمجرد أنها كانت موجودة قبلهم، وينسى أن الزمن لا يحترم مَنْ لا يتحرك.

التخلّف الفكري ليس عدم معرفة، بل هو الانغلاق على فكرة قديمة وكأنها الحقيقة المطلقة. هو التكرار بلا وعي، واليقين بلا دليل، والتسليم المطلق لما قيل لنا، لا ما اختبرناه. هو أن تكره الجديد لأنه يُربكك، وتحتقر المختلف لأنه يشعرك بالنقص، وتخاف السؤال لأنه يهزّ ثوابت لم تُبْنَ على أساس.

يظهر التخلّف في الأب الذي يمنع ابنته من الحلم، في المعلم الذي يقتل الفضول، في المدير الذي يخاف من الموظف الذكي، في الأم التي تزرع في طفلها الخضوع بدل الفهم. مجتمع بأكمله قد يبدو متعلّماً، لكنه متخلّف فكرياً إذا كانت العقول تردد ما يُقال دون تمحيص، وإذا كان المختلف يُقصى، والمجدّد يُتّهم، والساكت يُكافأ.

المتخلّف فكرياً لا يناقش، بل يهاجم. لا يبحث، بل يرفض. لا يتساءل، بل يخشى أن يعرف. يخاف من المعرفة كأنها عدو، ويؤمن بأن الثبات هو السلام، مع أن كل شيء في هذا الكون يتغير.

نعم، هناك جهل يُقاوَم، وجهل يُرَسَّخ. وهناك جهل نلبسه كهوية، نتباهى به، ونعتبره وفاءً للعادات، رغم أن العادة التي لا تنفع الإنسان ليست إرثًا بل عبء. المجتمعات لا تنهض إلّا حين تتصالح مع الفكر، وتحترم التساؤل، وتمنح أبناءها الحق في التغيير. لكن حين يصبح السؤال جريمة، ويُعامل التفكير كخيانة، فنحن لا نعيش، بل نُدار.

ربما لا نحتاج إلى ثورة كبرى، بل إلى شجاعة يومية بأن نقول: «يمكن أكون غلط... أبي أفهم». إلى شجاعة نزرعها في الجيل القادم بأن يسأل: «ليش؟» لا لأننا نريده أن يشك، بل لأنه لا يوجد يقين حقيقي بلا شك. العقل الذي لا يتحرّك، يتحجّر. والقناعة التي لا تُختبَر، تتحوّل إلى سجن مغلق.

الأسوأ من الجهل... أن نرتاح فيه، ونُزيّنه، ونقدّمه لأبنائنا على أنه حكمة. بينما الحكمة الحقيقية هي أن نعرف متى نُراجع أنفسنا، متى نُجدّد أفكارنا، متى نُصغي لا لِنُجيب، بل لِنفهم.

كل عقل لا يتجدّد، يختنق. وكل مجتمع لا يسمح بالفكر، ينهار... ولو بعد حين.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي