الماء والزّبد أو الأصل والصورة، تعابير تهدف كلها إلى توعية الإنسان بحقيقة الحياة.
حياة كل واحد منا عبارة عن أصل، أصل يعكس حقيقة وجودنا والهدف منها، وصورة مثل انعكاس الضوء، خيال يجب أن نتغافلها ولا نجعلها تُلهينا عن الهدف الأسمى لحياتنا.
أحياناً لابد أن نبتعد عن حلبة الصراعات التي تحيطنا من كل جانب، خلافات سياسية وفكرية، وتَطاحُن لا يتوقف بين الآراء، وتعصبات فكرية وطائفية وحزبية، كل تلك الصراعات تجعلنا شئنا أم أبينا في دوامة أفكار ومعتقدات تعصف بسكوننا الداخلي، وتفرض علينا الحياة فوق سطح التيار، إننا نعاني من تموجات السيل واضطراب أمواجه.
كل إنسانٍ اليومَ في عالمنا الواسع يُعاني، فقد تحولت الدنيا بما رحُبَت إلى بيت كبير، بيت فيه غرف متلاصقة دون حوائط ولا ستائر، ترى وتسمع كل ما يدور بين الشعوب حال وقوعها، لم يكتفِ الإنسان بمصائبه وقضاياه وخلافاته، لا لم يكتف بذلك بل أصبح يرى ويسمع ويتفاعل مع كل قضايا العالم، ما أوسع العالم وما أكثر قضاياه! كيف يتحمل الإنسان كل ذلك؟، هنا يحفظنا الله -جلّ وعلا- بأكبر نعمه الخالدة، كتاب الله، فنقرأ في سورة (الرعد، آية 17) ما يكشف عنا غطاءنا ويجعلنا نعرف الأصل ونبتعد عن الزبد، يقول ربنا عزّ وجلّ: «أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَت أَودِيَةُ بِقَدَرِهَا فَٱحتَمَلَ ٱلسَّيلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبتِغَآءَ حِليَةٍ أَومَتَٰع زَبَد مِّثلُه كذلك يضربُ اللهُ الحقَّ والباطلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمكُثُ فِي ٱلأَرضِ كَذَٰلِكَ يَضرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمثَالَ».
إنها علاماتٌ لطريقنا حتى لا نخلط بين الماء والزّبد، أو بين الأصل والصورة، المعيار واضح لا لبس فيه، منفعةُ الناس، هو الماء النافع وهو الحلية الثمينة.
حقيقة الحياة أهدانا إياها خالقنا جلّ وعلا، فما ينفع الناس يستحق أن نهتم لأمره فهو الأصل وهو الماء النافع، أما ما يضر الناس من فتن وخلافات وصراعات كأمواج الليل فليس أكثر من زبدٍ لا منفعة وراءه أو هو شوائب يضيع عمر الكثير من الناس وهم مشغولون فيها.
الحلُّ إذاً أمامنا، علينا أن نُلبس عقولنا مصفاة سورة الرعد، لا نهتم إلا بالأصل ونتغاضى عن الصورة، نجتهد في الوصول إلى الماء غير مبالين بانعكاسات السراب والزبد الذي لا منفعة فيه.
اليوم، في عالمنا المُعاصر ومع ثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، اليوم ينشغل كثير من الناس بالجدل والتلاسن، يُطفئون بهما نار مشاعر الغضب، يتصارعون ويتقاتلون، وتمضي بهم الأيام والسنين وهم مشغولون بالفتن وبالجري وراء الإشاعات والأكاذيب حتى إذا انتهى العمر القصير واقترب الأجل منهم اكتشفوا أنهم أضاعوا أعمارهم في سراب، وأنهم انشغلوا بالزبد فوق سطح الماء، انشغلوا بذاك السراب عن رؤية الماء الصافي والخيرات في مسيرة حياتهم، الوقت مضى بهم ولم يتركوا بصمة في حياتهم ولم يحققوا هدفاً لهم ليُسعدوا به غيرهم بل وربما لم يضعوا لبنة في جدار أوطانهم، هؤلاء لم يستفيدوا من معاني (سورة الرعد).
إنها خسارة عظيمة لو لم نميّز بين الحقيقة والوهم أو بين الماء والزّبد.