«الراي» رصدت الغارات المجنونة ويوم الهروب الكبير في الليل الطويل
في الضاحية الضحية... كأنه مشهد من «نهاية العالم»
مَشهدٌ من مَشاهد نهاية العالم في فيلم رعبٍ عاشَه اللبنانيون ليل الجمعة - السبت. غارةٌ هي الأعنف في كل الحروب هزّتْ بيوتَهم وأفئدتهم.
وما إن شاعَ الخبرُ أن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله هو المستهدَف في الغارة المزلْزِلة التي شبّهها كثر بانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 حتى سادت حالة من الذهول بين الناس على اختلاف انتماءاتهم وتسمّرتْ العيونُ على الشاشات.
وما هي إلا دقائق حتى بدأت صورُ الأهوال تتوالى وتشتدّ قتامةً مع اتّساع دائرةِ الغارات وعنفها على الضاحية الجنوبية. وبلحظاتٍ اتشحتْ المنطقة بالدخان الأسود ولفّها الذعرُ فشهدت عملية فرار جَماعي شبيه بما حَدَثَ يوم النزوح الكبير على طريق الجنوب مع انطلاقة الحرب الثالثة على لبنان الاثنين الماضي.
تحذيراتٌ إسرائيليةٌ طلبتْ من سكان بعض أحياء الضاحية والمباني إخلاءها لأنها ستتعرّض للقصف، كانت كفيلةً بزرْع حال من الرعب في صفوف السكان دفعتْهم لفرار جماعي من تلك الأمكنة على وهج الصور المروّعة لغارة الـ 85 طناً من المتفجرات التي أودت بالسيد نصرالله ومئات الضحايا.
وتكررتْ التحذيراتُ تباعاً في أكثر من حي ليسود ما يشبه فقدان التوازن بين الناس الذين راحوا يرْكضون في الشوارع بحثاً عن ملاذ آمن ويغادرون بسياراتهم هائمين نحو وجهات غير محددة. فالملحّ هو الخروج من الضاحية.
أرتالٌ من السيارات توجهت نحو ساحة الشهداء في وسط بيروت ليفترش مَن فيها الأرض ويملأوا الساحة في مَشهد مؤلمٍ لم يشهده لبنان سابقاً. الوجهة الثانية للهائمين بحثاً عن الأمان كانت الكورنيش البحري لمدينة بيروت أو شاطئ الرملة البيضاء فتحوّلت تلك الأماكن الترفيهية بالعادة مأوى لمئات الهاربين من الموت، فيما لم تتح للبعض حتى رفاهية الهروب بعيداً عن الضاحية فنزلوا إلى الشوارع القريبة كما في حي قصقص.
أصوات الغارات وشهب النار المتصاعدة منها رافقتْ صورُها هؤلاء فيما كان سكان الأحياء البيروتية والضواحي كما كل أهل لبنان مسمّرون أمام الشاشات لم يغمض لهم جفن يشاهدون بالمباشر قصف عاصمتهم وضاحيتها الجنوبية وسقوط أهلهم.
هروبٌ سريعٌ غير منظّم لم يَترك لأهل الضاحية الوقتَ لحمْل بعضٍ من أغراضهم وحاجاتهم الخاصة، رافقه خوفٌ على مصيرهم وقلقٌ أكبر على مصير نصرالله. ليلٌ طويلٌ سعتْ السلطات لمواكبته بإمكانات باتت محدودة جداً... لجنة الطوارئ سارعت إلى الإعلان عن فتْح مراكز إيواء جديدة في المدارس وطلبتْ من كل نازح موجود في مكان عام التواصل معها لتأمين مأوى له.
لكن الخطةَ التي ترزح تحت أطنان من الصعوبات باتت تواجه تحديات أقسى.
فالنزوح الأوّلي من الجنوب فاق التوقعات والقدرات، ليأتي نزوحُ ليل الجمعة ليفاقم الوضعَ ويُدْخِل الجميعَ في دوامة يَصعب التعامل معها.
وزير الصحة فراس الأبيض طلب إخلاءَ مستشفياتِ الضاحية الجنوبية ونقْل مرضاها إلى مستشفياتٍ أخرى في بيروت والمناطق الأمر الذي عزّز حالة الذعر وسط الناس لاسيما أبناء الضاحية الجنوبية. لكن سرعانَ ما أوضح رئيس مستشفى الساحل فادي علامة، أن الإخلاء هو للحالات الباردة للسماح بتحويل المستشفيات إلى مستشفيات ميدانية لاستقبال إصاباتٍ جديدة في حال حدوث طارئ.
بدوره كان الصليبُ الأحمر أطلق النداءات للتبرّع بالدم مع تَزايُد عدد جرحى الغارات والمصابين فيما أعلن الدفاع المدني سقوطَ شهداء وجرحى في صفوفه خلال تنفيذه مهمة إنقاذٍ ليل الجمعة نظراً لكثافة الغارات وما تخلّفه من دمار وإصابات، وكأن إسرائيل تَقَصَّدتْ إطلاقَ عملياتها الإجرامية في ساعات الليل لتصعّب على فرق الإنقاذ عملهم وتُعَرِّضَهم للمَخاطر.
فوجُ إطفاء بيروت أعلن بدوره أن رجالَه نجوا من الموت بأعجوبةٍ جراء انفجار مبنى في الضاحية الجنوبية كان الفوج يساعد في إخماد حريقٍ شبّ فيه نتيجة الغارات المتتالية على الضاحية الجنوبية. والجسم الطبي أيضاً لم يسلم من تشظيات الليلة الجنونية فأعلن عن سقوط 11 شهيداً من الأطباء والممرضين و19 جريحاً جراء الغارات على الطيبة وديرسريان، وفق «الوكالة الوطنية للإعلام» الرسمية.
وتَكَشَّفَ الليلُ عن مجازر ارتُكبت وأحياء سُويت بالأرض، ليطلع الضوء على الضاحية وقد صارتْ مناطق فيها رماداً وعلى ناس كبروا في ليلة مئة سنة كما تقول سندي مزهر التي لم تصدق ريما ما رأتْه حين أرسل لها جيرانها صورةَ للمبنى الذي كانت تسكنه وتحوّل كومة رماد ضاع معه كل أثَرٍ لبيتها و جنى عمرها.
ومثلها بكت دارين قائلة: «فجأة صرنا بلا بيت».
أما الحاجة أم فؤاد، فكانت تحتضن حفيدها بقوة، وتسأل «ما ذنب هذا الطفل المعوق ليمضي ليله على الطريق»؟ فيما صرخ أحدهم «أعيدوني الى أول من أمس» ويبدو وكأن دهراً قد مرّ عليه.
وكأن الغارات المتنقّلة التي أشعلتْ المناطق ناراً ودماراً وموتاً لم تَكْفِ لبثّ الرعب في النفوس، ليأتي الانتظارُ القاتل لمعرفة مصير نصرالله ومعه إشاعات كانت تؤجج الخشية في النفوس فيما الناس كانوا يتّصلون ببعضهم للاطمئنان. فقد أتصلت إحدى الممرضات بالمستشفى إبان سلسلة الغارات الأولى لتتوجّه الى مركز عملها، لكنها أُبلغت أن الموجودين في ذاك المكان «تبخّروا ولا جثث»، كما روت لموقع «رصيف 22».
مَن تركوا بيوتهم ليل الجمعة من أبناء الضاحية وقبْلهم أبناء الجنوب خرجوا بما عليهم. وضعوا بيوتهم في حقيبة ورحلوا. لم يحملوا أغراضاً شخصية بعدما باغتهم الخطر فنسوا ممتلكاتهم وأموالهم المحفوظة في الخزائن المنزلية... لم يسألوا عن ثمين وغال، وصارت الحياة أغلى ما يملكون وهمّهم الأول الفرار من الجحيم.
غادروا الجحيم ولم يغادرهم
لكن الجحيم أبى أن يتركهم واستمرت المعاناة. عائلات تضعضعت، فَقَدَ أفرادها الاتصال في ما بينهم وأضاعوا بعضهم البعض، أولادٌ تاهوا عن عائلاتهم وأفرادٌ لم تُعرف وجهتهم ومصيرهم. كبار في السن بقوا عالقين في قراهم وأحيائهم بعيداً عن عائلاتهم، لم يستطيعوا المغادرة إما لأنهم لا يملكون وسيلة نقل أو بسبب المرض والعجز.
ومع تَكَشُّف نتائج الغارات والقصف المتواصل، بدأ يتضح حجم المأساة: عائلاتٌ بأكملها طُمرت تحت ركام بيوتها، أطفال رضع وصغار، شابات وشبان، أمهاتٌ وآباء وكبار سن غافلهم الموت على حين غرة، ومَن نجا ينوء تحت جراح جسدية ونفسية ثقيلة. وعائلات أبى الموت أن يتركها فلاحقها إلى حيث نزحت كما حصل في بلدات جون الشوفية والمعيصرة الكسروانية ورأس اسطا في جبيل.
غاراتٌ تنقلت صباح السبت بين بحمدون و فقرا وقبْلهما في بعدران الشوف، واستهداف لسيارة في صوفر، ما زاد من خوف الناس الذين باتوا يشعرون بأن لا خيمة فوق رؤوسهم أينما حلوا.