«من راقب الناس مات هماً». قولٌ مأثور
اغتيال المسؤول «الحماسي» محمود المبحوح، في أحد فنادق دبي، والذي كُشف عنه الستار الأسبوع الماضي، على يد مجموعةٍ، من الأغلب أنّها من «الموساد» الإسرائيلي، ومن ثمّ كشف معطيات الجريمة من قبل السلطات المختصة في دبي، ذكرّنا بأفلام «جيمس بوند»، أو بالأحرى جعلنا نُصَدِقْ، أنّ ما كنا نشاهده في أفلام العميل «007» ليس بالضرورة من وحي الخيال على الإطلاق. ورغم نفي إسرائيل تورطها في اغتيال المبحوح نظراً «إلى عدم وجود أي دليل ذي طابع اتهامي» حسب زعمها (الصحف «السبت» 20/02/2010) فكل الدلائل تشير إلى أنّها وراء عملية الاغتيال، إذ مَنْ غيرها المستفيد طبقاً لنظرية الاستبعاد (Elimination Process). وكان مبعث استغرابي، أنّ كل الأوصاف البشعة قد كيلت ضد العدو الإسرائيلي، والسؤال هو، إن لم يكن العدو لئيماً ووقحاً وبشعاً، فهل يكون ودوداً، لطيفاً وصادقاً! وحين صرّح قائد شرطة دبي ضاحي الخلفان، بأنّ أحد المقربين من الضحية، قد أفشى لـ «الموساد» ببرنامج زيارته، احتجت «حماس» على ذلك وكأنّها لا تضم إلاّ قديسين! وإن صح اتهام الخلفان، فهذا لا يعني، إطلاقاً، أن كل «حماس» متورطة. ففي أوائل التسعينات من القرن الماضي أُغتيل في باريس معين بسيسو أحد كبار الأمنيين في «منظمة التحرير الفلسطينية»، ولقد استشاطت المخابرات الفرنسية غضباً، كما ذكر الكاتب محمد حسنين هيكل في أحد مقالاته في مجلة «وجهة نظر» المصرية، ولم يغمض لها جفن إلاّ حين كشفت أنّ الشخص الثاني (على ما أذكر من آل بلعاوي) كان قد، والتعبير لهيكل، فتح أوتوستراداً مع «الموساد»، أثناء إقامته في تونس وتبين أنّه هو نفسه «فاعل الخير»! ولم يعن ذلك، أنّ كل أعضاء المنظمة متورطون في ذلك! وآمل أن تدرك «حماس» أن اغتيال المبحوح، يندرج ضمن مخطط إسرائيلي لتصفية كوادرها الأمنية. فلقد أكدّت التقاير الصحافية الأخيرة أنّ انفجار حافلة الركاب في دمشق (3/12/2009) لم يكن نتيجة انفجار «دولاب» الباص كما ادّعت وكالة الأنباء السورية («سانا»، الرسمية)، بل نتيجة عبوة انفجرت وأدّت الى مقتل اثنين من عناصر «حماس». تبع ذلك انفجار الضاحية الجنوبية في بيروت (26/12/2009) والذي أدّى الى استشهاد عنصرين، كما ورد في تقرير للشرطة اللبنانية. وعلى سيرة وكالات الأنباء العربية الرسمية، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، يبدو أنّها تتساوَى في «الذكاء»! ففي حين عزّت «سانا» الانفجار الى «الدولاب» أصدرت وكالة الأنباء السعودية، بياناً، اثر فيضانات جدّة الأخيرة قائلةً انّ الناس ابتهلت لهطول المطر وخرجوا فرحين سعيدين، الأمر الذي استدعى تدخلاً سريعاً من وزير الإعلام السعودي عبد العزيز خوجة!
عملية الاغتيال، إذاً، كانت مُحْكمة التخطيط والتنفيذ. لكنّ، ما فات المُخطط (بكسر الطاء)، أو لعلّه لم يأبه له، أن كاميرات دبي ستكون لعملائه بالمرصاد! وأن كل الفنادق والمراكز التجارية والمرافق مراقبة. ففي العام الماضي تم توقيف أربعة لصوص أوروبيين اقتحموا متجراً للمجوهرات في مركز الجمان التجاري بعدما كشفت الكاميرات وجوههم. فالفضل الأول والأخير يعود لشبكة الكاميرات الموزّعة والمثبتة في كافة أرجاء الإمارة والتي رصدت هذه المرّة تحرك الضحية والجناة. ولعلّ المخطط قد «فاته» أن كاميرات دبي هي التي رصدت قاتل المغنية اللبنانية سوزان تميم (صيف 2008)، والذي أقل ما يوصف بالغباء: فلقد استعمل بطاقة الائتمان، ورمى ثيابه الملطخة بالدماء في أحد المستودعات في أسفل المبنى، ولم يقدم على أي تغيير في معالم وجهه، علماً أنّه كان ضابط أمن قبل أن يلتحق بمؤسسات المحرض المحتمل هشام طلعت مصطفى! قتلة المبحوح كانوا أكثر ذكاءً. «خطيئتهم» الوحيدة، وهي بالواقع خطيئة المُخطط، أنّهم لم يدركوا دور الكاميرات في تحديد هوياتهم ورصد تحركاتهم، أو أنّهم لم يكترثوا لذلك.
وكانت الكاميرات لعبَت دوراً محورياً في تحديد منفذي تفجيرات لندن الأخيرة (20/12/2005). وبعد ازدياد وتيرة الاغتيالات في بيروت، أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري (14/2/2005)، طـُرحت فكرة تركيب كاميرات في العاصمة بيروت، لكنّها جُوبهت بالرفض من قبل قوى الأمر الواقع، لأسبابٍ لا تسمن ولا تغني من جوع.
المهم... فليعلم القاصي والداني أن تحركاته في إمارة دبي مرصودة. الأمر الذي يُذكّر، باللافتات التي توضع على بعض المنازل: «المنزل خاضع للمراقبة» لعلّ قراءة اللافتة تثني الدخلاء عن التفكير في الدخول الى المنزل.
لكنّ مسألة اغتيال المبحوح، تتعدّى مسألة الكاميرات إلى منحى أكثر أهمية وجدية وخطورة، ألا وهو إثبات، مع الأسف الشديد، أن يد المخابرات الإسرائيلية هي يد طولى، وأنّها نشطة وفاعلة مقابل ضعف أجهزة الاستخبارات العربية وعجزها عن القيام بأي عمل استخباراتي يهز الأمن الإسرائيلي. اللّهم، باستثناء، ما تسرّب عن العميل المصري، رأفت الهجّان في ستينات القرن الماضي (ولقد عُرض برنامج تلفزيوني قام ببطولته الممثل القدير محمود عبد العزيز، يُبين سيرة الهجان وبطولاته). ولعلّ من الضربات المؤلمة للاستخبارات الإسرائيلية ضرب المفاعل النووي العراقي (يوليو 1982) والمنشأة النووية في الكبر، سورية (أيلول 2007) واغتيال عماد مغنية القائد العسكري «لحزب الله» في دمشق (فبراير 2008). المرجّح، لا بل الثابت، أنّ الاستخبارات الإسرائيلية، نجحت مع الأسف في إيجاد كوادر وأجهزة استخباراتية في غالبية الدول العربية، (تم كشف شبكات تجسس إسرائيلية عدة العام الماضي في لبنان) بهدف جمع معلومات وتحليلها، لتوظيفها بما يتلاءم مع أهدافها التي ترمي الى خلخلة الاستقرار في عالمنا العربي، الأمر، الذي ينعكس سلباً على القيادات العربية لاتخاذ القرارات، أو حتى الامتناع عن اتخاذها. ويا حبذا، لو تولي القيادات العربية الاهتمام البالغ لأهمية العنصر الاستخباراتي، والعمل بالتالي على إيجاد «توازن» استخباراتي، في مواجهة العدو الإسرائيلي. ولكن، الى أن يحين ذلك، فرب قائل بأنّه من الظلم والتجني اتهام مخابرات النظام العربي الرسمي بالكسل والتقصير والانكفاء. ففي بعض البلدان العربية، فالمخابرات نشطة، فاعلة، في... قهر المواطن العربي وكم الأفواه وكبت الحريات!
ولكن، في عودة الى دبي، فما لا شك فيه، أن عين دبي الساهرة، قلبت المثل القائل: «من راقب الناس مات هماً»! فأصبح المُراقَب (بفتح القاف) مهموماً... بدلاً من المراقِب!
عبدالرحمن عبدالمولى الصلح
كاتب لبناني