أبعاد السطور

صوت الحنين

تصغير
تكبير

«أتدري ما هو الحنين؟ الحنين هو حين لا يستطيع الجسد أن يذهب إلى حيث تذهب الروح».

دستويفسكي.

منذ أيام قليلة، وبلا أي تخطيط، وبلا أي تعمد، مرّ بي الطريق وأنا أقود سيارتي ‏من عند مدرستي القديمة، تلك المدرسة التي درست فيها المرحلة الابتدائية، ‏فتلبسني الحنين سريعاً، ‏ورق قلبي، وعصفت بي مشاعر لا أعرف كيف أصفها.

‏وقفت أمام باب المدرسة، وأخذت أنظر يميناً وشمالاً على امتداد جانبيّ سور المدرسة، ذلك السور ‏الذي فقد الكثير من بريقه ولم يعد متمسكاً بعنفوانه، وبان عليه التعب والكِبر.

طرقت الباب، ولما فتحه حارس الأمن، حييته وابتسمت له، وكانت أمنيتي حينها أن يشعر بفيض الحنين الذي كان في صدري، ‏ليعذرني ويقنع بطلبي ‏ويسمح لي بالدخول إلى الداخل.

‏أخذت أتجول في ساحة العَلم، وعندما اقتربت من السارية تذكرت وقوفي في كل صباح ‏وأنا أهتف بأعلى صوتي بتحية العَلم ‏والتلاميذ يرددون خلفي تلك الكلمات بمنتهى الحب والنشاط.

‏وتوجهت إلى تلك الفصول الدراسية التي درست في داخلها من الأول إلى الرابع الابتدائي، كنت أنظر في داخلها فأجد وجوه أولئك الأطفال الذين قضيت معهم أجمل وأنبل أيام عمري. فمنهم من مات رحمهم الله تعالى، ‏ومنهم من غاب ولم أعد أعرف عنهم أي شيء، ومنهم من لا أراهم وأتعرف عليهم إلا بصدفة صعبة لم تكن في الحسبان.

ثم توجهت نحو مكتبة المدرسة التي علمتنا كيف نستحضر الهدوء وكيف يكون التعامل الصحيح مع الكُتب، وتذكرت كيف كنت حينما أدخل للمكتبة أشعر بالانتماء والانسجام الشديد مع الكُتب والمجلات والصحف والطاولات والأرفف.

‏ثم ذهبت إلى الساحة الترابية في أقصى المدرسة حيث ملعب كرة القدم، ‏فرجعت بي الذاكرة ‏إلى تلك الأحاسيس المغموسة بالسعادة واللذة عندما كنا ‏نلعب بحماس ونحن نرتدي اللباس الرياضي ‏الذي كنا نفخر به.

‏تجوّلت في معظم أركان وأرجاء وزوايا المدرسة، وكان الحنين يعصف بي، فهناك كان أشقائي وجيراني وأصدقائي، هناك كان أساتذتي الذين لقنوني العلم وغرسوا بي الكثير من القيم الطيبة، هناك لي ذكريات، لي سنوات طويلة مملوءة بالشوق والوجد والحنين، هناك قرأت وكتبت ولعبت وركضت ورسمت ولوّنت، ‏هناك كانت انطلاقتي الأولى نحو الحياة.

الحنين هو المشهد الذي لا ينتهي، الحنين هو صوت الذاكرة الذي لا ينقطع، الحنين ‏سفر الإنسان في ‏داخلي وجدانه، الحنين هو أصدق ما في سلة العمر من بقايا تجاربنا.

‏ثم بعد ذلك ودعت الحارس وشكرته، ورجعت إلى سيارتي وضجيج الذكريات يزفر في صدري، وترافقني غصة موجعة في فمي، ودمعة كبيرة في عيني، وصوت الحنين يهمس لي: أينما تذهب سوف أتحدث إليك.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي