مشاهدات
رحلوا عنّا وذِكراهم باقية
تصادف اليوم الذكرى السنوية الثالثة على فراقك يا ولدي -مهدي- ما أصعب الرحيل، وما أصعب الفقد الذي يأخذ كل اللحظات السعيدة معه، يغيب المرح والابتسامة والسعادة، وتضيع الأحلام والأماني ويحل محلها الحزن والألم والذكريات.
بالأمس، كنا فرحين برزق الله لنا بمولود والآن نبكي لفقدانه، لا أستطيع نسيان اللحظة التي تلقيتُ اتصالاً تلفونياً يبلغوني بأن ولدي فى المستشفى وعندما هرعت إلى هناك وجدتك نائماً في سبات عميق... أكلمك ولا تجيب... أشعر بنار تشتعل في صدري ولا تنطفئ إلّا بذِكر الله.
فالرحيل حق، فجميعنا سنرحل يوماً ما من هذه الدنيا الفانية، فكل نفس ذائقة الموت، كم هو صعب ومُؤلم رحيل من نحب والذي يسبب لنا الألم والحزن عندما نتذكر أياماً ومواقف جميلة عشناها معهم والتي ذهبت بذهابهم وظلت عالقة بذكراهم تتجدد كلما مرّ خيالهم بذاكرتنا.
وما الدنيا إلا دار انتقال والآخرة هي خير وأبقى، ففي ليلة 2021/5/13، ليلة الثلاثين من شهر رمضان كنا مجتمعين معاً في غرفة المعيشة، والدتك وأنت وأنا نتناول الطعام ونتبادل الأحاديث المتنوعة مبتسمين مستبشرين بالخير وكنا في قمة السعادة.
كنت يا ولدي / مهدي معنا فكل ما دار بيننا من كلام أتذكره بالتفصيل لم أنسَ كلمة ولا جملة منها (لا تخاف يا والدي عليّ، فأنا أعرف ديني ولم أترك يوماً صلاتي، وأوعدك بأني سأرفع رأسك عالياً)، وبعدها اتجهت إلى غرفة أخيك / محمد، وتكلمت وتمازحت معه وكنت في قمة السعادة، ولم نكن نعلم بأنها الليلة الأخيرة لنا معك، اللهم لا اعتراض إنما هو إرادة المولى عز وجل وقد حان الأجل وابتدأ الفراق الطويل وضاعت الأماني وتلاشت الأحلام وتلظى القلب بفقد أحبائه فأصبحت الحياة أشد قسوة، فلقد رحل أحباؤنا وتركوا لنا الدار فأصبحت خالية من دونهم، لا أحد يسمع أنيننا وشكوانا وآهاتنا، ذهبوا وتركوا لنا الأحزان لتؤلمنا، إنما هو الرحيل... الرحيل والفراق والفقد وما أصعبهما.
فوالله إن الفراق صعب ومؤلم فكيف أتمكن من فراق روحٍ كانت جزءاً مني، دون أن أحزن أو أتألم، رحلوا وتركوا في القلب ندبات لا تزول آثارها حتى وإن توالت الأيام ومرت السنون تظل باقية، بفقدكم يا ولدي مهدي يبكي القلب وتجف دموع العين.
ما نسيتك يوماً يا ولدي العزيز -مهدي - منذ فارقتنا، أذكرك يومياً في صلاتي ودعواتي، ولم أنسكَ طيلة سنين ثلاث مضت منذ رحيلك، فأنا استأنس بقربي من خيالك والعيش على ذكراك.
وكذلك هو حال والدتك وإخوتك فكل منا يساند الآخر في هذا المصاب الكبير، بالإضافة إلى أهلك وأصدقائك وأحبائك فالجميع يذكرونك بالخير ويدعون لك.
تتجدّد الذكريات:
بعد مرور ثلاث سنوات على فقد فلذة كبدي، فقيدي الذي لا يعوض (مهدي)، كنت في أحد الأيام جالساً على طاولة الطعام أتناول الغداء مع الأسرة وكان بجانبي حفيدي الأصغر (اسحاق) الذي لم ينسكَ بالرغم من صغر سنه حيث فاجأني بقوله: بابا عود وين خالي مهدي؟ فأخبرته بأنه في الخارج يدرس بالجامعة.
فقال لماذا لا يأتي إلينا؟
فقلت له إنه مشغول بالامتحانات والدراسة!
فقال لا !!! لديه عطلة فلماذا لا يرجع؟
فتجمّدت أفكاري وانعقد لساني فلم أتمكن من الرد عليه! وهنا تدخلت اختي / فوزية، وغيرت الموضوع مع حفيدي الصغير.
وهيّج الحفيد مشاعري وذكرت تلك الأبيات:
زِدْنِي وَهَج مَا شِئت مِنْ شَجني
إنْ كُنْت مِثلِي تعرف الشَّجنا
أَذْكَرَتْنِي مَا لست نَاسِيَةً
وَلِرَبّ ذِكْرَى جَدّدْت حُزْنًا
كَمْ ذَا أَغَالبه وَيَغلبني
دَمْعُ إذَا كَفَكفته هَتِنَا
فأخذتني الأفكار، تارةً أحزن، ماذا أقول للصغير المتعلق بخاله وتارةً أخرى أفرح بأن الصغار لم ينسوه وافتقدوه وما زالوا يتذكرونه.
وللأسف فنحن نعتقد بأن الصغار لا يدركون بعض الأمور وخاصة الموت بينما العكس هو الصحيح.
فيا ترى ما الذي يجعل المرء يتذكر من غيّبهم عنا الموت بعد مرور سنوات على رحيلهم؟
بالتأكيد هناك تفاصيل محفورة في الذاكرة حتى لدى الصغار.
كنت أعتقد بأن الصغار لا يفقهون معنى الفقد، فكنت مخطئاً في اعتقادي هذا، فجميع أحفادي يتذكّرون خالهم الغائب من دون استثناء، ولكن الذي لم أكن أتوقعه أن يكون أصغرهم ذو السنوات الست محتفظاً بذكرياته التي جمعته مع خاله رغم مرور ثلاث سنوات على فراقه.
وصدق من قال:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره
وكذا تكون كواكب الأسحار
فهذه حال الدنيا لا يعرف الموت صغيراً أو كبيراً.
ولشدة تفاعلي من موقف حفيدي، لجأت إلى أصدقائي ونقلت ما دار بيني وبين حفيدي، فكان لهم الدور الفاعل في تهدئة تأثري وشاركوني فقدي ابني مهدي بهذه الأبيات بقريحتهم الشعرية:
رثاء الأستاذ الأديب / عبدالرسول الفراتي بأبيات قائلاً:
لروح فقيدكم الغالي
يدُ المنيةِ لا تُبقي ولا تذَرُ
من الخلائق كل الناس تختطفُ
فيأخذ الموتُ منا خيرَ مأخذهِ
من الكرام ويبقى الصبرُ والأسفُ
إنا بفقدك يا مهدي حل بنا
حزن عميقٌ وهذا القلبُ يرتجفُ
حزناً عليك دموعُ القلبِ نسكبُها
ذُقنا الفراقَ ودمع العينِ ينذرفُ
أنت السعيدُ بما تلقى غداةَ غدٍ
ووالداكَ أجور الصبر يقتطفُ
وعدٌ من اللهِ في صدقٍ مقاعدُهم
فالصابر في جِنانُ الخلدِ يلتحفُ
رثاء الإعلامي الاستاذ / إبراهيم القتم والذي شارك بهذه الأبيات:
مَاذَا عَسَانا وَأَرَزاء الدُّنَا مَطَر
يَهَمِي عَلَيْنَا وَهَذَا الْقَلْب مُنْفَطِر
كَمْ انْتَظَرْنَاك أَيَّاماً نَعُدُّهَا
سَاعَاتِهَا وَضِرَام الشَّوْق يَسْتَعِرْ
يَا قَادِماً أَنْت لِلْأَرْوَاح مُؤْنَسها
فِي نَاظِرَيْه بِهَاء الرَّوْض يَزْدَهِر
مَا إنْ سُرِرْنَا فَجُعْنَا بَعْدَ مَقْدَمِهِ
بِهَادم الْفَقْدُ بِالْأَحْزَان نَعْتصر
أَبْكِى فِرَاقُك يَا مهدي أَعْيُنُنَا
وَالشَّمْس رَانَت وَأَخْفَى ضَوْءُه الْقَمَر
يا رَبِّ فَاحِشره وَالْأَطْهَارُ إِنْ لَهُ
قَلْباً مُحِبّاً لِمَنْ فَازُوا وَمَنْ طَهروا
ما أجمل وأروع هذا الشعور منهما ولا يسعني إلا أن أبادلهم الشعور بالتحية والشكر والامتنان.
ونبادل كل أسرة العزاء والمواساة ممن فقدوا شباباً في مقتبل العمر فنحن نشعر بآلامكم واشتياقكم لرؤيتهم، فتلك الخسارة لا تتوقف عن التفكير في أطفالنا الذين فقدناهم. والحمد لله رضينا بما قدره الله لنا.
وهنا تتبادر إلى أذهاننا المعاني والحقائق أن الاطفال يشاركون الكبار إدراكاً وفهماً وأيضاً لا ينسون ما علق في ذاكرتهم من لحظات عاشوها مع الأحبة، فما أجمل الطفولة والذكريات والبراءة مما يتطلب من الآباء والأمهات أن يعوا مدارك ومشاعر أطفالهم.
وهي رسالة للآباء والأمهات للتقرب أكثر إلى أبنائهم، فهم زينة الحياة الدنيا، نسأل المولى عز وجل بأن تقوم الأُسر الكريمة بالحفاظ على تلك الأمانات الغالية التي أودعها الله لديهم.
وَإِنَّمَا أولادنا بيننا
أَكْبَادنا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ
لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ عَلَى بَعْضِهِمْ
لَامْتَنَعَتْ عَيْنِي عَنْ الْغَمض
ولدي مهدي، غبت عني ورحلت جسداً، لكنك ستبقى حياً في ذاكرتي، وسيظل قلبي ينبض حباً ووفاءً لك، وكلما فاضت روحي شوقاً لك سأرتل القرآن وأقرأ الدعاء لروحك الطيبة يا ولدي مهدي، إنها رحلة الموت التي لا تنتهي إلّا بانتهاء الدنيا... رحمك الله يا ولدي وأحسن إليك، وجعلك من أهل الجنة خالداً فيها.
«إنا لله وإنا إليه راجعون».