مشاهدات
بطولات مغيّبة
المقاومة لا تنحصر بالمقاومة المسلحة فقط، إنما هي سلسلة متواصلة من الصور والأحداث، فالمقاومة تتجلى مشاهدها
في ما يلي:
العصيان المدني -الانتفاضة الشعبية -الوقوف ضد الظلم -المقاطعة -الكلمة والكتابة، فالمقاومة هي ثقافة الحرية والعدالة والكرامة، وتبقى هناك حقيقة ساطعة وهي أن الإنسان بطبيعته، كائن مقاوم، لكل التحديات التي تواجهه، من أجل أن يظل على قيد الحياة.
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }
والآن وبعد مرور 33 عاماً على غزو الكويت سنذكر بعض المواقف المغيبة والمشرّفة لتكون نبراساً لأجيالنا القادمة في حب الأوطان والإيمان والوطنية والعطاء.
سنتطرق هنا لأربعة مشاهد مختلفة قاومت المحتل بكل قوة:
المشهد الأول:
الشهيد / عبدالمهدي عبدالحميد بهبهاني
شاب في أوائل العشرينات من العمر، تخرج في كلية التكنولوجيا والتحق بالعمل في إدارة الإطفاء العام، وكان شاباً ضعيف البنية الجسمانية، مسالماً لا ينتهج العنف ولا الجدال ولا المشاحنات ولا المشاجرات، الطيبة والرحمة ديدنه.
إلا أنه أظهر شجاعة فائقة عندما تم غزو الكويت، فمنذ اليوم الثاني من الغزو شكل مع صديقه الشهيد / محمد زمان، خلية شبابية من مهامهم التنقل بالسيارة وتصوير مجاميع الغزاة وأماكن تواجدهم وكذلك توثيق سرقاتهم وتسليم تلك الصور إلى إحدى مجموعات المقاومة.
وفي اليوم السادس من الغزو الغاشم بتاريخ 1990/8/7 تم أسره مع صديقه في الطريق، وانقطعت أخباره عن أسرته منذ تلك اللحظة وحاولت أسرته التواصل والبحث عنه في المخافر والمراكز الأمنية التي كان يديرها الغزاة ولكن من دون نتيجة تذكر، ولم يتوصلوا إلى تحديد مكانه ومعرفة خاطفيه.
وبعد مرور كل هذه السنين الطويلة لا تزال الأخبار عنه غير معلومة، ولا تزال أُسرته تبحث عنه، وقد مرضت أمه، رحمها الله، بسبب حزنها على فقد ابنها الأصغر، فهي لا تعلم إن كان قد لقي حتفه أم لا يزال أسيراً عند الغزاة القتلة، فقدت تلك الأم الحزينة صحتها وأصبحت طريحة الفراش.
حتى كان ذلك اليوم، وبعد سنوات طويلة، الذي جاء فيه الخبر بإيجاد رفات المغدور به بتاريخ 2021/1/13 فلم تعرف أمه ذلك ولم تعِ بسبب حالتها الصحية بان ابنها كان شهيداً.
فالمقاومة لا تعني المقاومة المسلحة فقط وحمل السلاح، وإنما المقاومة لها أوجه كثيرة حتى وإن كانت بسيطة كالتقاط الصور الفوتغرافية.
وبالرغم من أن الغزاة كانوا قد أصدروا تحذيراً بمنع استخدام أجهزة التصوير الفوتوغرافي وتصوير المنشورات وأعلنوا بأن عقوبة من يستخدمها الإعدام، إلا أن هؤلاء الشبيبة صمموا على توثيق ممارسات الغزاة دون خوف على حياتهم فهم وطّنوا أنفسهم ليكونوا فداءً للوطن.
وسبحان الله أظهر الشاب الشهيد/ عبدالمهدي، شجاعة كبيرة عكس شخصيته المسالمة، فعندما يتعرض الوطن للخطر يتغير كل شيء وتكون التضحية بالنفس أسمى حالاتها.
المشهد الثاني:
الدكتور المرحوم / هاشم سيد حميد بهبهاني
دكتور أكاديمي وأستاذ محاضر في جامعة الكويت، قسم العلوم السياسية، له الكثير من المؤلفات السياسية وتدرس كتبه في الأكاديميات الأجنبية.
شخصيته: مسالم محب لوطنه، وفي الفترة الأخيرة أصيب بمرض نادر بالجهاز العصبي يؤثر بشكل مباشر على الخلايا العصبية المسؤولة عن التحكم في الإحساس وحركة العضلات الإرادية ويعد من الأمراض النادرة وتزداد الأعراض سوءاً بمرور الوقت.
والدكتور هاشم فقد بسببها قوة الساقين فكان يعاني من الآلام الشديدة ويمشي معتمداً على عكاز لفترة ثم استعان بالكرسي الخاص للذين يعانون من صعوبة الحركة، ومع ذلك استمرّ في أداء دوره الأكاديمي في جامعة الكويت بالرغم من بطء الحركة وصعوبة التنقل، إلا انه كان إنساناً مثابراً وقوي الشكيمة.
عندما حدث الغزو الغاشم وتم احتلال الكويت، رفض المغادرة وظل صامداً في الكويت حتى التحرير، تواصل مع أبناء وطنه منذ بداية الغزو الغاشم وأعطى منزله في منطقة مشرف إلى إحدى مجموعات المقاومة والتي كانت تضم كوكبة من المقاومين فتم استخدام المنزل كمقر للاتصالات الخارجية للتواصل مع القيادة السياسية في الخارج، حيث كانت المقاومة تستخدم جهاز الاتصال (ستايلات) عن طريق الأقمار الاصطناعية.
وغادر منزله وسكن في منزل أقربائه لفترة زمنية في منطقة مشرف أيضاً، وبعد ذلك انتقل إلى منزل أخيه في منطقة الدعية حتى أنعم المولى عز وجل علينا بنعمة التحرير.
فهذا شخصية وطنية بامتياز وبالرغم من حاجته إلى العلاج والعناية الصحية حيث كان يعاني من قلة الحركة وصعوبة الكتابة إلا أنه قال: «لن أغادر الكويت وسأبذل قصارى جهدي لرد الجميل إلى الوطن».
وساهم بالكتابة والمال وتقديم كل ما يستطيع آنذاك وفاءً لوطنه الكويت، ولله الحمد من الله علينا بالتحرير، وفرحته كانت لا توصف، وبعد ذلك غادر إلى الخارج لتلقي العلاج.
المشهد الثالث:
بيبي عبدالحسين معرفي (أم جاسم بهبهاني) أرملة المرحوم / محمد صالح بهبهاني... هي المرأة الكويتية المميزة التي تذكرنا بالجيل الجميل، جيل تقديس الحياة الزوجية، الجيل الشامخ الذي يؤمن بقضاء الله وعدله ولا يهاب الموت وان كان الاعداء أشد الخصام كما كان أزلام الطاغية، نظام القتل والتنكيل.
هي مثال للمرأة الكويتية الكريمة العفيفة المكافحة، ربة البيت، مربية أجيال، التي تهيئ البيت للراحة والسكينة للزوج والأبناء، تلك هي المرأة الكويتية التي همها أن توفر لبيتها ما يحتاجه من حاجات طيلة غياب الزوج في رحلة السفر والتجارة.
تلك الشخصية هي أمي وأمك، جدتي وجدتك، كلهن، (عزة وشرف ونبل).
ما كانت المرأة الكويتية القديمة تغادر منزلها إلا للضرورة، وإذا أرادت اللقاء فهو في منزلها مع أسرتها ولا تخرج إلا بإذن زوجها.
أم جاسم وأسرتها كانوا يسكنون في منزلهم في منطقة الشعب بأمان، وفجأة في يوم 2-8- 1990 تم غزو الكويت من قبل أزلام الطاغية من النظام البعثي السابق، ومباشرة في مساء اليوم التالي للغزو بتاريخ 3-8-90 قامت قوات الاحتلال باقتحام ديوان المنزل باحثين عن المرحوم / مراد يوسف بهبهاني؟ فرد المرحوم محمد صالح: بأن أخاه مسافر وليس متواجداً في الكويت.
فقالوا له من أنت؟ فقال: أنا أخوه، ومباشرة اقتادوه مخفوراً في إحدى السيارات وعصبوا عينيه وربطوا يديه واتجهوا به إلى جهة مجهولة؟
وعندما أبلغوا زوجته- أم جاسم - بان زوجها قد تم أسره ويجب أن تغادر المنزل؟
أجابت لن أغادر المنزل، أنا جئت إلى المنزل مع زوجي ولن أغادره إلا مع زوجي، وظلت طوال فترة الغزو مرابطة في المنزل مع أبنائها جاسم ويوسف وبناتها صامدة في الكويت، كانت تشد من أزر ابنائها وتقوي عزيمتهم ومؤمنة برحمة الله عز وجل، صابرة محتسبة إلى الله لم تقطع الدعاء يوماً، تدعو لفك أسر زوجها وحفظ أبنائها، وأظهرت شجاعة فائقة للتصدي للغزاة عندما كانوا يترددون على المنزل بحجة التفتيش، فلم يتمكن الغزاة من إخافتها بل كانت قوية الشكيمة لا تهاب الأعداء بل غرست تلك الخصال في قلوب أبنائها بصمودها وثباتها في وجه الأعداء.
(للتنويه: المنزل الذي تقيم فيه يطل مباشرة على طريق الفحيحيل السريع، ويوجد في المنزل أكبر هوائي للاتصالات اللاسلكية، فهو الوحيد الموجود في الكويت، وكان الغزاة يترددون على المنزل بحجة التفتيش، إنما كان الهدف من جولاتهم السرقة!)
دفعت الأموال لكل من كان يدلي بمعلومات عن زوجها ولكن دون جدوى، فالزوج انقطعت أخباره ولا يعلم مكانه وليس هناك أي تواصل مع معتقليه.
وبعد مرور شهرين تم أسر ابنها حجي يوسف، قبل أن يدخل إلى المنزل وبذلك زاد الحزن والألم في قلب هذه المرأة الصابرة، فلقد فقدت الزوج والابن في تلك الأيام العصيبة.
(فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين)
وبفضل من الله تم فك أسر حجي يوسف، وبعد التحرير أطلق سراح المرحوم / محمد صالح بهبهاني.
وأنعم المولى عز وجل على -أم جاسم - المرأة الصابرة المؤمنة، القوية الشكيمة، الباكية يومياً على فقدها أحبتها ومع ذلك كانت قوية القلب لا تهاب الموت ولا الأعداء وكانت تنتظر الموت دون خوف ومدافعة عن أبنائها بل كانت هي مَن جعلتهم لا يهابون الأعداء.
فأساس الصمود في وجه الأعداء هي الأم التي لها القدرة على تأهيل الصمود والثبات والصلابة في قلوب الأبناء والرجال ناهيك عما تغرسه من المحبة والانتماء للوطن.
«إما نعيش بعز أو نموت بكرامة».
المشهد الرابع:
الأطباء الكويتيون
كانوا أيام الغزو الغاشم على رأس عملهم يقدمون كل ما يملكون من خبرة في مجال الطبابة للمواطنين المحتاجين للعلاج غير مبالين بما قد يقع عليهم من الاعتقال والتنكيل والقتل.
وتكرر هذا الموقف المشرف في أزمة وباء كورونا، وكان لهم دور فاعل في مجابهة هذا المرض الغريب، فمنهم من فقد حياته في سبيل أداء واجبه الوطني لعلاج كل من يحتاج إلى العلاج.
وقد كان الدور المشرف قبل أيام لثلة من الأطباء عندما غادروا الكويت متجهين إلى غزة الصمود القابعة والمحاصرة تحت الاحتلال الصهيوني، فهؤلاء الأطباء غادروا دولتهم الآمنة مرتحلين إلى قطاع غزة الفاقدة للأمن والأمان لتقديم المساعدة بإجراء بعض العمليات الجراحية لمحتاجيها من أهلنا الذين يقتلون يومياً تحت أنظار العالم دون أن يتمكن أحد من وقف ذلك، غادروا إلى موقع المعارك حاملين معهم الأكفان غير مبالين بالموت، لديهم رسالة وهي تقديم العون للجرحى المحتاجين للعلاج.
فهؤلاء هم الكويتيون، عز وفخر، ديدنهم مقاومة المحتل ومساعدة المحتاجين.
اللهمّ احفظ الكويت آمنة مطمئنة والحمد لله ربّ العالمين.